أنه سؤال مهم،فهذا البروز السريع للميمية قد يجعل البعض يعتقدون أنها نبتت في البيئة الأجتماعية دون سابق أنذار ولا مقدمات أفضت لهذه الظاهرة. أن مراجعة فاحصة لمراحل التطور البشري توضح أن حركات التحول الكبرى في تاريخ الأنسانية أقترنت دوماً بتغيرات سلوكية-أجتماعية تباينت وجهات النظر حولها بين من عدّها مرغوبة ومرحب بها وبين من عدّها سلبية ويجب مقاومتها. وبين هذا وذاك فقد تطورت الثقافات المجتمعية للشعوب لتتجاوب قبولاً أو رفضاً أو تعديلاً لتلك السلوكيات حتى أستقرت على ما هي عليه. لقد كان تغير التكنولوجيا عبر التاريخ كحجر كبير يلقى في ماء راكد فيولّد موجات من التغييرات الأجتماعية والأقتصادية وحتلى السياسية في الثقافة الأجتماعية للأمم. لقد أدت الثورة الصناعية وأختراع الآلة في القرن الثامن عشر مثلاً الى سلسلة من التغيرات الأجتماعية التي جوبهت بردود فعل أجتماعية وسياسية وحتى دينية كبرى.فقد أنهى عصر الصناعة دور الأسر الزراعية الممتدة وأستبدلها بالأسر الصغيرة أو النووية.وأتاح الأنتقال من عصر العضلات الى عصر الآلة للمرأة أن تغادر بيتها وتعمل في المصانع بسهولة مما جعلها شريك في الدور الأجتماعي التقليدي للرجل. ومنحت هذه الثورة الآلية للأنسان قدرة أكبر على أن يستقل عن الأقارب والعشيرة في دخله ومعيشته. كما أتاحت للأنسان مغادرة قريته بأتجاه المدن التي باتت تجمعات أجتماعية كبيرة وضخمة أستّنّت قوانينها ومعاييرها الأجتماعية المختلفة تماماً والتي كان ينظر لها من قبل الساكنين خارج المدن بأنها معايير تتناقض مع التقاليد والعادات الأجتماعية(المحترمة). ومثلما جلبت تلك الثورة الصناعية كثير من الرفاه والتطور الذي سمح مثلاً للأولاد أن يذهبوا للتعلم في المدارس بدلاً من البقاء في المزرعة لمساعدة أسرهم، أو أدخار أموال تجعل من الممكن مواجهة الأزمات أو القضاء على الأمراض والأوبئة، فأن ذات الثورة الصناعية جلبت معها كثير مما عُدّ سلبياً مثل قضاء وقت أقل مع الأسرة وأكثر مع الآلة،أو الذهاب أقل لدور العبادة وبالتالي أغضاب الرب،أو أستنزاف الموارد الطبيعية والأتجاه للحروب والأستعمار للحصول على تلك الموارد.
أن العالم يعيش اليوم في مرحلة تغيير تكنولوجي أكبر بكثير من مرحلة التحول من الزراعة الى الصناعة. أنه يعيش عصر الثورة الرقمية Digital Revolution والتي تعني الأنتقال من عصر الآلة والألكترونيات التناظرية analogue electronic الى عصر الألكترونيات الرقمية. هذه الثورة التي تسمى أيضاً عصر المعلومات أو الموجة الصناعية الثالثة والتي بدأت في أواخر القرن الماضي غيرت كلياً (وليس جزئياً) من طرق التواصل والتعاون الأنساني واللذان قامت عليهما كل الحضارات منذ فجر التاريخ لليوم. وهي لم تقم فقط بأستبدال وسائل التواصب بل أكثر(وربما أهم) من ذلك هو أنها أستبدلت الوسط الذي يتم عبره التفاعل من وسط فيزيائي حقيقي الى وسط الكتروني أفتراضي. وما فعلته الثورة الصناعية في مجتمعات الزراعة تفعله اليوم،وبسرعة أعلى وتأثيرات أشد،الثورة الرقمية في مجتمعات الصناعة اليوم. هاكم بعض تلك التغيرات المهمة:
1. الأنتقال من الأسر الصغيرة الى الأسر المايكروية(أب وأم وولد أو اثنان في أقصى الحالات) أو النووية(أسر ذات أب أو أم فقط).
2. الأنتقال المكاني الأسهل والأسرع.
3. الأعتماد على الآلة المرقمنة لزيادة الأنتاج أو العمل بما يقلل الحاجة للعاملين،ولا يجعل هناك حاجة لسكان أكثر.
4. مثلما مكنت الآلة من تقليل الجهد في الزراعة وزيادة الأنتاج وتعدد الدورات الزراعية فقد مكنت الرقمنة من تقليل وقت العمل وزيادة العائد ووقت الفراغ.
5. بيئة العمل أنتقلت من الفضاء الطبيعي المفتوح الى الفضاء الأفتراضي المغلق،ومن الأعتماد على الطبيعة(كالحيوان والنبات) الى الأعتماد على الذكاء الأصطناعي ومن الأعتماد على العضلات وقوة الجسد الى الأعتماد على العقل والمهارات الرقمية.
6. الأنتقال من أنموذج أقتصاد التجارة القائم على التبادل ومحدودية الموارد الى نظام أنتاج أكثر أستقلالية عن البشر والطبيعة.
هذه التغيرات وسواها أكثر،غيرت من أنماط التفاعل الأجتماعي ومن طبيعة المجتمعات(المرقمنة). أننا نعيش اليوم آلام المخاض الأجتماعي الجديد الذي سيغير من كل ما كنا نعرفه من تفاعل أنساني ناتج عن تفاعل الأنسان مع الطبيعة،الى ثقافة أجتماعية ناجمة عن تفاعل الأنسان مع ما بعد الطبيعة والتي تقودها الرقمنة.ويبدو ان آلام المخاض ستكون أشد هذه المرة نظؤاً لطبيعة المولود المختلفة كلياً عما سبق. ولكي لا نفاجأ بتلك التغيرات الأجتماعية ونكون مستعدين لها فأن علينا أولاً عدم الفزع،وفهم حقيقة ما يجري فعلاً ليس في أطار غيبي مؤامراتي وأنما في سياق معرفي مبرر علمياً. أن الحركات الميمية هي في أعتقادي أحدى الأفرازات (غير المرغوبة عندنا) لهذا التطور غير المسبوق . فأذا أراد أحدٌ قبولها على علّاتها كما يفعل الغرب الآن أو يروج له البعض فهذا شأنه.أما أذا كنا نرفضها فقط دون أن نقدم البديل الذي نرغب به،فأن علينا تذكر أن كل من أنقرضوا في الطبيعة قبلنا أرتكبوا الخطأ القاتل حينما أكتفوا برفض التغيير دون أن يعرفوا كيفية مواجهته.(يتبع)