في كل مرة أنوي الحديث عن حياتنا الأدبية في مدينتي الناصرية وبخاصة منذ سنواتِ سبعينياتِ ما قبل السفر الدراسيّ إلى بغداد فإني أتجنبه متذكراً أخاً كبيراً لي ومعْلَماً من معالم مدينتنا : القاص والروائي والكاتب المسرحي والناقد والشاعر والمترجم والفنان : أحمد الباقري ، وأقول لعله يبدأ هو فيأتي حديثه أغزرَ في التاريخ والوقائع إذ أنه سيبدأ من نقطة في الزمن هي غير النقطة التي سأبدأ منها حتماً ولأنه ابن المدينة وأديبها بالواقع الحيّ اليوميّ ، بينما أنا ابنها بالحنين والتذكر.
وقد بقيَ الكلام عن أدبنا في الناصرية وأيامنا الأدبية ومقاهينا حقلاً غير مشتَغَل فيه كثيراً جرّاءَ خشية مبرَّرّة عند أيّ جريءٍ من خارجنا – حتى إن كان أكاديمياً ذا منهج – من أن يكون معتدياً علينا وعلى تاريخنا الروحيّ.
ونحن أدباءَ المدينة وُلدْنا في أجيال مختلفة فكان كل جيل سابق يربي الجيل اللاحق في جلسة حديث في مقهانا الأدبي “مقهى أبي أحمد” أو في لقاءٍ في المكتبة العامة أو في مجالسة متجاورة في صالة ثقافية..أو في صف مدرسةٍ..أو..أو..
وإذ تختلط الأسماء والأجيال في لجة الوقائع المتشابهة والمختلفة واختيار المصائر بعيداً عن المدينة ومركزها الأول فيُعرَفُ أن عدداً من أدبائها غادرها مثل الراحل “عبد القادر رشيد الناصري..من مواليد كركوك جاء الناصرية وغادرها” والراحل حامد العزي “من مواليد العمارة ومتوفىً في المغرب” والراحل قيس لفتة مراد والراحل عناية الحسيناوي والراحل خالد الشطري والراحل كاظم جواد والراحل الشهيد عزيز السيد جاسم والراحل محسن إطيميش وصلاح نيازي وعبد اللطيف إطيميش وعبد الرحمن الربيعي وعبد الرزاق رشيد الناصري وعزيز عبد الصاحب ومحسن الموسوي وفاضل عباس هادي وشوقي عبد الأمير وحسن الخياط وغيرهم فإنَّ اسمين من أدباء المدينة بقيا في المدينة في تلك السنواتِ مرتبطين بها أشدَّ ارتباطٍ وممثليْ جيليْن متعاقبيْن ومؤثريْن سبقانا..هما: الشاعر “الخمسينيّ” الراحل رشيد مجيد والقاص والمترجم “الستينيّ” أحمد الباقري.*
ولأن مناسبة المقال حديثي عن أحمد الباقري فسأترك مثله عن المدينة إلى قدرٍ آخر.
كان أحمد الباقري يقول “عرفت كمال سبتي وهو ابن أربعة عشر عاماً” فيصلني قوله وأنا في بغداد في السبعينيات والثمانينيات فأضحك وأتذكر تعرّفي إليه في تلك السن وجلساتنا في ما بعدُ في مقاهي المدينة ومنها مقهانا الأدبيُّ: “مقهى أبي أحمد” وسطَ سوق المدينة..وقد كان مقهىً فقيراً بأثاثه وأغراضه ، وأرستقراطيّاً بالمرحوم أبي أحمد وترفعه على زبائنه مناكدةً.
حين كنت أدخل إليه كالتلميذ وقد كنت تلميذاً حقاً فقد كان “أبو أحمد” يتفحصني ملياً ، ويضع استكان الشاي أمامي قائلاً بنبرة جادة: شايك ابني. وفي ما بعد حين رأى أن الراحل رشيد مجيد يهتم بي وكذلك أحمد الباقري ويقدم لي كتباً وغيرهما من الأدباء اقتنع أبو أحمد بأن التلميذ هو “مشروع أديب” في تلك السلالة فأخذ يهتم بي هو الآخر..ويمازحني بين الحين والآخر علامة على ترحيبه بوجودي.
كان مقهى أبي أحمد مهاباً من بقية صحبي بسبب طابع أدبيّ جادّ فيه فلا يدخلونه فينتظرونني في مقهى شعبي آخر..
هيبة أتذكرها في الحديث فيه عن مواقف أدبية صارمة مثل انتحار مايكوفسكي أو “رفضِ سارتر تسلّمَ جائزة نوبل”.. أو رفضِنا نحن موقفَ جون شتاينبيك المؤيدَ حربَ فيتنام في تضاد مع رواياته التي قرأناها كـ”عناقيد الغضب” و”اللؤلؤة” و”أفول القمر” و”شرق عدن” و”رجال وفئران” و “البحث عن إله مجهول” و”شارع السردين المعلب”..إلخ بل وحفظت أنا شخصياً أغنية عن “توم جود” بطل “عناقيد الغضب” غناها تروتسكيون أميريكيون كانوا اتخذوه بطلَهم :
Tom Jod
We need your words
We need your fingers
We need you
فكان ينمو كل موقف في وعينا رفضاً أدبياً للجوائز ومسابقاتها أو الكتابة الدعائية عن حرب أو عن قائد سياسي حاكم مهما كان حزبه. فالموقف الأدبي أرقى من كل موقف حزبيٍّ وأولى منه.
مواقفُ بل تعاليمُ صعبة تبناها أدباء المدينة وخانها ضعفاؤهم في ما بعد أمام دنانير الجوائز والدكتاتور.
ولقد عاش متبنوها حياة شقية في بغداد وفي الناصرية وفي كل مكان وصلوا إليه.
وكان أحمد مثالاً منهم. وحين كنا نستذكره في بغداد أنا وصديقي الشهيد عزيز السيد جاسم كنت أقول لأبي خولة : هو في الناصرية وأنا في فنادق بغداد..وبيننا عهد على ألاّ نتلوث بدنانير الجوائز والدكتاتور.
رفضَ أحمد الجوائزَ ومسابقاتِها الحربية الدعائية ولم يكتب عن “القائد” فعمل بائعَ تذاكرَ في إحدى دورَي السينما في الناصرية أيام الحصار ثم بائعَ سجائرَ على الرصيف ينسى هدفه التجاري فيوصي الزبون بضرورة إقلاعه عن التدخين ، على الرغم من أنه كان “ومازال” مدخناً شرهاً أولاً وبائعَ السجائر تالياً!!
وحين كانت تصلني أخباره بعد هربي من العراق وأنا في يوغسلافيا أو في قبرص أو في إسبانيا أو في هولندا فلا أفعل أكثرَ من تذكّرِ سنواتِ الشقاءِ في الفنادق الردئية ببغداد حتى لا أكتب أدباً دعائياً أو مديحَ دكتاتور ، وأقول يا للعهد الذي بيننا ويا للتعاليم الأدبية الصارمة..وياللمكتبة العامة..وياللصحبة..ويا لمقهى أبي أحمد.
أرسل إليّ الباقري أيّامَ حكم صدام رسائلَ من الناصرية ليؤكد لي بقاءه أميناً للتعاليم الصارمة ومفسراً لي بما كانت تسمح به ظروف الرقابة آنذاك ابتعاده عن جادة الدكتاتور وأدب مسابقاته ونقوده : ” بيت الدعارة الذي يبيع فيه الأديب ضميره وشرفه” ، ومؤكداً عزوفه عن الاشتراك في حفلاته. يقول في واحدة من رسائله إليَّ أيّامَ ذاك الحكم:
“وصلت إلى يقين..ولو أنني قد عرفته منذ زمن بعيد..وهو أن الأديب الحقيقي وحيد كنجمة الصباح..لايأخذ من دنياه عشرَ ثمن عطائه الأدبي.
إني لم أتغير..فأنا ذلك الانسان الذي يعطي بدون مقابل..أؤمن أن الأدب كالماء والهواء والطعام للإنسان..لايؤخذ شيء مقابله..
ومازلت أؤمن أن النقود غواية..وهي الهاوية التي يسقط فيها الإنسان..سواء أكان أديباً أم إنساناً عادياً..ويفقد شرفه في حضيضها المظلم الوسخ..
وهي بيت الدعارة الذي يبيع فيه الأديب ضميره وشرفه..وتتمزق رسالته الإنسانية في أفرشة غرف هذا البيت القذر..والحقير.
لم أربح في حياتي الأدبية مالاً يكافىء جهدي في كتابة الأدب..لم أربح سوى السمعة الطيبة واحترام الناس لي وحبهم الكبير..وهو التاج الذي أتمنى أن يكلل هامتي.”
بين آذار ونيسان من العام الماضي زرت مدينتي الأمَّ بعد غربةٍ طويلة فقرر أدباء المدينة إقامة أمسية لي واقترحوا أحمد الباقري مقدماً لها فأجابهم في ذلك المقهى الجديد الذي شهدنا فيه تراشقاً بالنيران بين قوات الحلفاء وجيش إمامنا المنتظر : “طبعاً أنا أقدمه..فأنا أعرفه منذ كان عمره أربعة عشر عاماً”..وقهقهنا كلنا.
ولم تُقَم الأمسية..بسبب المعارك. وغادرت المدينةَ فالبلدَ وأنا أفكر في تقديمه الذي لم يلقه والذي ربما كنت أعرفه عن ظهر قلب منذ تلك التعاليم الأدبية الصارمة.
وقبل تسعة شهور أبردَ أحمد إليّ روايته الجديدة “ممر إلى الضفة الأخرى” وعليها إهداء مؤثر ، يقول لي في بعضه : “أحبكَ أكثرَ مما أحبُّ أخي”. قرأته وأخذت أبكي.
البارحة هتفت إليه في الناصرية..فكان هو يتكلم وكانت الدموع تترقرق في عينيّ متذكراً تعاليم ذلك المقهى وتلك الصحبة وقوله لي في تلك الرسالة :
“إن الشعر عذاب لذيذ. إنه وثيقة زواج مع العالم وتصفية حساب مع سكانه ومع النفس.
أليس كذلك يا كمال ؟ ألم يكن ما كتبته من شعر في رحلة حياتك هو الكنز الذي بحث عنه السندباد البحريّ ؟ وهو الجزة الذهبية التي بحث عنها يوليسيس ؟ وهو عشبة الخلود التي سعى للعثور عليها جلجامش ؟”
نعم يا أحمد الغشيم في الحياة ، أيها المعلّم..
هذه الكتابة تحية لك من صديقك الغشيم في الحياة أيضاً.
وتحية لتلك المدينة التي غادرتُها شاباً للدراسة فالخدمةِ العسكرية الإلزامية فالهربِ من العراق.
شيء عن أحمد الباقري :
ولد سنة 1941 في الناصرية.
درس في مدارسها الابتدائية والمتوسطة والإعدادية ثم درس في معهد الفنون الجميلة – قسم الرسم في بغداد وتخرج فيه عام 1962- 1963.
نشر أول قصة قصيرة بعنوان “اللصان” في مجلة الآداب اللبنانية عام 1962.
نشر أول قصيدة نثر بعنوان “نداءات” في مجلة الكلمة النجفية عام 1967.
نشر كتاباً مترجماً عن الشعر الفرنسي في القرن العشرين بعنوان “رصيف سوق الأزهار” عام 1971..احتوى على تقديم شعراء داخليٍّ ، كتبه الشاعر الشهيد خالد الأمين.
نشر ترجمة للمسرحيات التالية في مجلة الثقافة الأجنبية العراقية :
1- الزنوج – جان جنيه.
2- الموسيقى – مرغريت دورا.
3- العبد – ليروي جونز.
نشر ترجمات لقصص من تأليف كتاب كبار مثل وليم فولكنر ، ترومان كابوت ، مرغريت دورا ، ميشيل بوتور ، وليم بورو وغيرهم..
ترجم رواية ملك الذباب قبل أن يفوز كاتبها غولدينغ بجائزة نوبل ، ولم يحظ على موافقة نشرها.
كتب دراسات نقدية عن مجاميع قصصية وشعرية عديدة لكل الأجيال.
نشر عدداً من القصص القصيرة في الصحف والمجلات العراقية والعربية.
كتب نقداً تشكيلياً عن معارض محلية وكتب نقداً مسرحياً عن عدد من المسرحيات في السبعينيات.
نشر نصاً مسرحياً واحداً من فصل واحد تحت عنوان “لا سفر في الليل” في مجلة الآداب اللبنانية عام 1967.
صدرت له مؤخراُ عن دار قرطاس في الكويت رواية : ممر إلى الضفة الأخرى.
لديه ستة كتب مترجمة “أعرف أسماءها كلها” بين رواية ومجموعة قصصية وشعرية لم تطبع بعد.
* ثمة آخرون من أجيال سابقة كانوا بقوا في المدينة مثل الراحل فاضل السيد مهدي”من رواد قصيدة النثر في العراق” والراحل عبد الرحمن الرضا والراحل صبري حامد والراحل عزران البدري والراحل جميل حيدر والراحل الشهيد خالد الأمين والراحل مهدي السماوي والراحل عبد الجبار العبودي وبلقيس نعمة العزيز وناهض فليح
الخياط “باق فيها حتى الآن”..إلخ
هولندا