في عام 1971كان قائمقام أبو صخير كردياً اسمه محمد سعيد محمود؛ وله ثلاثة أبناء “آمانج وكرمانج ورنج وابنة واحدة اسمها لنجه”، أما خادمة البيت فكان اسمها أشوان.. كان أخي الراحل علي يرتبط بصداقة متينة مع “آمانج”، بل كان أخي صديقه الأوحد، بينما كان “كرمانج” يعشق تربية الحمام فصاحب رعد علي عمر الذي يربي الحمام أيضاً، أما “رنج” فكان صديقي بامتياز، فقد ساعدته في امتحان اللغة العربية في الرابع ابتدائي، واستبدلتُ دفتر الامتحان معه وجعلته يحصل على درجة متميزة مثلي، أحبّني “رنج” وتوطدت صداقتي معه، كان مشهد خروجه في الفرصة لرؤيتي مثار حسد الآخرين من أصدقائي، لم يجلس إلاَّ معي في الفرصة، كنت أنظر لحذائه الجلدي بحسرة وأنا أرتدي نعلاً مطاطيَّاً، ذات يوم بعد انتهاء المدرسة طلب مني الحضور معه، ودخل بيتهم الكبير بينما جلست على حجر كبير عند الباب، بعد وقت لم يكن طويلاً أطلّ ببراءته وعرض أمامي صورة لرجل يعتمر يشماغ، نظرت للصورة ببلاهة، قال لي:
- هذا زعيمنا البرزاني.
فارتبكتْ، يومها كان القتال على أشدَّهِ في الشمال.
***
كنتُ في الرابع ابتدائي، وكان أحد أصدقائي المقربين من طائفة الصابئة، في ذلك الوقت لم أكن أعرف الطوائف، كان وسيماً بلْ ساحراً بكل شيء، أتحدث عن الواقعة في عام 1970، كان صديقي الصابئي يرتدي ” الجارلس” في حينها، بينما نحن نلبس الدشاديش، كان منظره ببنطال الجارلس وقميصه القطني الأبيض عندما يتجوَّل معي في “الفرصة” يجذب أنظار الجميع؛ كأنَّهُ كوز بلُّور يقطر عسلاً، حتى كلامه يشبه همس الملائكة، وفي لحظة حاول أحدهم ممن رسب أكثر من مرة في السادس ابتدائي مشاكسته.. قال له:
- معقولة هكذا جمال في مدرستنا.
واندفع حتى يحتضنه، بلْ نجح في تقبيله عنوة، وتبخّر فجأة، رأيتُ وجهه وقد امتقعَ من الخوف، فذهبنا نشتكي ما حدث لمدير المدرسة، لما سمعنا اشتعل غضباً، وطلب حضور الذي اعتدى عليه فوراً، اضطربتْ المدرسة وجيء بالذي بالفتى، ضربه المدير بمسطرة طويلة على رأسه بغضب وكنت أرتجف مع صديقي الصابئي، لما أزفَ وقت مغادرة المدرسة إلى بيوتنا، خرجت بصحبة صديقي العسلي، لم أنس كيف حاصره ثلة من الأشقياء، ضربه أحدهم على صدره فتقدمت للدفاع عنه، ضربت أحدهم بلكمة عنيفة وركلتُ بقدمي آخر، رأيت صديقي ينزف الدم من أنفه، فجننتُ.. أمسكت بأحدهم وسحقت رأسه تحت نعالي حتى كاد يموت، هكذا أنا عندما أنتقم لا رحمة عندي، حين انتهيت من النزاع، لم أجد سوى نفسي تقاتل.. ولم يكن هناك سواي.. بينما كان صديقي الصابئي يقصُّ الواقعة على أهله باكياً.
***
نهاية ستينيات القرن الماضي ، كانت بيوتات قليلة جداً في قضاء أبو صخير تمتلك التلفاز، ويمكن الاستدلال عليها بسهولة من خلال شبكة استلام البث التي ترتفع بأعمدة شاهقة فوق سطوح تلك البيوت، في مقدمة تلك البيوت بيت القائمقام وبعض الأُسر الميسورة التي لا يتجاوز عددها أصابع كفٍّ واحدة ومنازل شيوخ العذاريين طبعا، إضافة إلى منزل مصلّح التلفزيونات الحاج خضر رحمه الله الذي كان محلّه في النجف وتربطنا بعائلته علاقة وطيدة، كانت تتكرَّم علينا بين حين وآخر وتدعونا لمشاهدة فلم الخميس العربي في ليالي الصيف الجميلة، غير أنهم انتقلوا بعد سنة إلى بيت جديد في حي الحفاة وكان يبعد مسافة طويلة عن منزلنا فانحسرت الزيارة لهم حتى تلاشتْ، وأصبحنا نحن الأشقاء الثلاثة نشاهد التلفزيون بمقهى المدينة مقابل عشرة فلوس ثمن استكان الشاي الذي نشربه مرغمين. في يومٍ استثنائي شاهدنا دخول تلفزيون “أمبسدورا ” يوغسلافي الصنع إلى دارنا، عندما قرر والدي شراءه بالأقساط من متجر الحاج محسن اليعقوبي الشهير في ناحية الحيرة، أتذكر ثمنه كان مئة وعشرة دنانير بالضبط، أضيف لها نصف دينار أجرة سيارة خشبية حملته إلى منزلنا، كان المقرر نقله بعربة خشبية يجرها حمار مقابل أجرة زهيدة، لكنَّ أمي رحمها الله اعترضت على الفكرة خشية من تعرّض التلفزيون إلى عطل ما بسبب وعورة الطريق، وكانت محقّه في ذلك، كسرتْ بيضة على حافته طرداً للحسد وسال زلالها على الشاشة مما أثار غضب والدي، كنّا قد ثبتنا شبكة استلام البث قبل يومين من قدومه، كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف مساء عندما رأينا داخل حسن يفرك بمسبحته من خلال شاشة التلفزيون ، لم يصمد على الشاشة سوى لحظات وغابت صورته لضعف البث، حتى أصبحت معاناتنا من ضعف البث تسبب لنا نوبات عصبية وجنون خاصة إذا ” تلاشى البث ونحن نتابع مسلسل كابوي يدعى “سيميرون سترب” كانت تعرضه القناة ظهيرة كل جمعة. أذكر أنَّ امرأة قروية كانت تزورنا بين شهر وآخر نشتري منها السمن الحيواني، عندما شاهدت المذيع على شاشة التلفزيون أشاحتْ بوجهها عنهُ خجلاً وعاتبت أمي لأنها لم تخبرها عن وجود رجل غريب في الدار. ذات نهار تجمع العاملين بمشروع الماء الذي يعمل به والدي مع الجيران في منزلنا لمشاهدة نزال المصارعة لعدنان القيسي مع خصمه المصارع “كوريانكو”، وكانت هناك آنية مزدحمة بأقداح الشاي أمام الضيوف، وفي لحظة غير متوقعة سيطر الخصم على القيسي خلال النزال، مما دفع أحد الضيوف إلى قلب الآنية غضباً وتناثر الشاي الساخن مع شظايا الزجاج على الرؤوس، لم يتمالك والدي أعصابه وطرد ذلك العامل المسكين من المنزل وسط هتافات الآخرين الذين ابتهجوا عندما عاد القيسي وسيطر على خصمه، وفي لحظة لا أنساها هجم العامل المطرود على يد والدي وقبّلها وهو يردد:
- “سيدّنه سامحني.. اضربني بالقندره بس خليني أشوف النزال”.