لم تتمدد النظم الديمقراطية في الدول بموجاتها الثلاثة , خلال أعوام أو عقود , و إنما بدأت قبل أكثر من ثلاثة قرون شهدت جزر و مد , و تضحيات جمة و تغييرات سياسية و اجتماعية وعلمية كشفت عن دينامية المجتمعات في التقدم و بناء المستقبل .
فالديمقراطية في الدول الاوربية جاءت تدريجية وفق الظروف والعوامل المؤثرة في تلك البيئة ، و لم تأتِ او تنقل من الخارج لترتطم بواقع مثقل بالاستبداد و الامراض الاجتماعية .
ففي فرنسا التي أشرق منها عصر الانوار و طبقت النظام الديمقراطي بعد ثورة 1789 لم تسمح بحق التصويب لعموم الشعب , أي عدم مشاركة الفلاحين و العمال , الا بعد قرن من الزمن . فيها سمح للنساء بالمشاركة في التصويت وحق الاقتراع في عام 1945 على يد الرئيس شارل ديغول . و عدم المشاركة يعود لعوامل أقتصادية و سياسية و دينية من بقايا القرون الوسطى لها التأثير على عقول تلك الطبقات التي تؤمن بها حينذاك وتعيق البناء الديمقراطي .
و لأن الديمقراطية وصلت مجتمعنا من الخارج في ظروف موضوعية و ذاتية معقدة ، بعد عقود من القمع و الكبت والدكتاتورية , ثم تسيد المشهد السياسي أحزاب تؤمن بالانتخابات لأنها الطريق الى السلطة , و لا تطبق قيم الديمقراطية في الحرية و العدالة و التسامح و نحو ذلك , بسبب إتجاهاتها المذهبية و الدينية ، وقدرتها التضليلة في تغيير إتجاهات الرأي بما يتوافق مع آيديولوجيتها وإستخدامها للمال السياسي , فأن النظام ما زال يحبو أو انه يطبق سطحياً او شكلياً رغم مرور عقدين من الزمن .
و خلال الشهور القادمة سيخوض العراق إنتخابات مجالس المحافظات بمشاركة اكثر من 300 حزب جُلها إسلامية , تلك المجالس التي رفضها حراك تشرين , لما رافق المجالس السابقة من سلبيات في الاداء و إتهامات بالفساد و حضور متعثر في خدمة المحافظات . لذلك أعتقد أن الانتخابات القادمة ستشهد عزوفاً من قبل الناخبين , إن لم تشارك قوى مدنية تستميل الجمهور و تؤثر في إتجاهاته . إذ أن الاحزاب الاسلامية و دوافع مرشحيها تتكئ على ذات النهج الطائفي و العشائري و تشابه و تكرار الشعارات و الاهداف , الاختلاف فقط في الوجوه و أسماء المرشحين الذين يؤدون دوراً محدوداً سواء كان على المستوى الحزبي او العشائري .
و نرى أن المشاركة في عملية الاقتراع ينبغي ان تكون في الحد الادنى للمتعلمين من خريجي الدراستين الابتدائية او المتوسطة , ليس لانهم مستوعبين للقيم الديمقراطية او لقدراتهم على قراءة البرنامج الانتخابي (المفقود) للمرشح او الحزب , و إنما كي يتمكن من فرز و قراءة أسماء المرشحين , تلك الدرجة هي في الهامش من السلم الانتخابي , للانتخابات العراقية المعلبة التي لم تأخذ مساراً تدريجياً ينمي قدرة الفرد في التعامل مع التجربة الديمقراطية , و العملية الانتخابية التي تقوم على حرية الاختيار التي تنتج عدم الخضوع لتوجيهات الرموز الدينية و السياسية و الاجتماعية و إستيعاب مفردات البرنامج الانتخابي و القدرة على المساءلة في مدى معالجة الواقع المأزوم .لأن التعليم يُسهم في نضج الاختيار و يشكل أحد دعائم الديمقراطية .
و بالرغم من أن هذا الرأي لا ينسجم مع توجهات أحزاب السلطة بسبب من ان معظم الخزان البشري للأحزاب الاسلامية من هذه الفئات التي يتمكن خطابها من التأثير على إتجاهاتهم , إضافة الى ان الانتخابات تعتمد على عدد أصوات المرشح و ليس الكفاءة و النزاهة .
و إذا ما كان ذلك يمنع تلك الفئات من ممارسة أحد حقوقها فأن القرار الصعب في معالجة الخلل أحياناً يكون ضرورة لتصويب و إستقامة البناء و تحقيق النجاح .
أن إعتقادنا بتغيير القانون و تحديد الفئات المشاركة في الانتخابات يسهم في تعديل مسار و نتائج الانتحابات , و يُفقد الاحزاب دون وطنية جمهورها الانتخابي , و من ثم تراجعها في المشهد السياسي . بعد أن أنتجت دولة هشة فشلت في معالجة المعضلات التي تواجه المجتمع .