تعرض مقر الأمم المتحدة في (ظهيرة سوداء) يوم 19/آب/2003 الى عملية إرهابية انتحارية بسيارة مفخخة، استهدفت (فندق القناة)، وهو مقر بعثة الأمم المتحدة في العراق، راح ضحية العملية رئيس البعثة البرازيلي الجنسية (سيرجيو فييرا دي ميلو) عندما كان في ذلك الوقت يقود جهوداً أممية مبكرة لإخراج القوات الأمريكية والجيوش المتحالفة معها من العراق.

وفي ذلك الوقت كنتُ أنا صحفياً معتمداً لدى بعثة الأمم المتحدة في بغداد، ما سمح لي بلقاء الرجل المحترم (سيرجيو) على مدار الأيام والأسابيع، وكان (سيرجيو) نفسه صديقاً للصحفيين على نحو خاص، وكان بمقدور الصحفيين المعتمدين لدى البعثة آنذاك توجيه الأسئلة الى (سيرجيو) في أي مكان وفي أي وقت، حتى أثناء فترات تناول الطعام في كافتيريا البعثة، أو في الباحات الخارجية للمبنى أو داخل الممرات.

عموماً .. كان (سيريجو) معلماً لكل من حوله، وشجاعاً، وشعبيا، ودبلوماسيا إلى أقصى درجة، ومازلت أتذكر السعادة التي شعر بها حين وصلته رسالة من (السيد السيستاني) يدعوه فيها لزيارة النجف، في الوقت الذي كان فيه (بول بريمر) يتعالى ويتكبر على (الزعيم الروحي للطائفة الشيعية)، لكن (سيرجيو) كان يجد في السيستاني بداية الطريق لجمع العراقيين من أجل استعادة وطنهم من الغزو الأمريكي، إلا أن (سيرجيو) سقط شهيداً قبل أن يحقق هذا الحلم.

ولذلك أجد من الضروري على العراقيين اليوم مشاهدة فيلم قدّمته (شبكة نتفليكس)، يحمل عنوان (CERGIO)، يروي قصة حياة (سيرجيو) الأخيرة، التي انتهت في بغداد، وهي جزء من التاريخ الوطني للعراقيين، الذي لطالما تم إخفاؤه.

ومن ضمن ذكريات مع (سيرجيو) أنه سألني مرة أثناء جلوسي معه على طاولة مفتوحة في مكتبه، وكان دائماً يدعو الصحفيين إليها للتباحث والاطلاع مع مجموعة من مستشاريه، أتذكر منهم (غسان سلامه، محمد فوزي، عدنان جراد) وكذلك المساعدة والرفيقة لـ(سيرجيو) السيدة الارجنتينية (كارولين لارييرا)، سألني (سيرجيو) باعتباري الصحافي العراقي الشاب الوحيد من بين مجموعة الحاضرين:
– قال لي : ما هي وجهة نظرك في الأمم المتحدة ؟
قلت له : لا أحد من العراقيين يثق بالأمم المتحدة، لأن العراقيين عاشوا 13 سنة تحت حصار قاتل جرى فرضه عليهم تحت مظلة الأمم المتحدة، واليوم يدخل عليهم 30 جيشاً بالدبابات بحجة وجود أسلحة دمار شامل، وهي أكبر كذبة تجري في العالم أمام أسماع وأنظار الأمم المتحدة.

وفي اليوم التالي من هذا اللقاء مع (سيرجيو)، شاهدت أنا، مثلما شاهد الجميع غيري من كوادر دبلوماسية وإعلامية، ورقة بيضاء معلقة على لوحة الإعلانات، داخل مقر الأمم المتحدة في بغداد، كتبها سيرجيو بخط يده، مكتوب عليها “يجب أن نعمل من أجل تحسين سمعة الأمم المتحدة في العراق”.

ولعل من أسرار (الظهيرة السوداء)، يوم مقتل (الشهيد سيرجيو) كانت توجد خطط في الظلام استبقت وصول الصحافيين الى (فندق القناة)، وكنت واحداً منهم، حيث وجهت للصحافيين آنذاك دعوة من قبل المنسق الإعلامي للبعثة، للحضور الى مؤتمر صحافي سيعقده (سيرجيو)، سوف يكشف من خلاله مضامين (تقرير البعثة) الذي سيتم رفعه الى مجلس الأمن بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها القوات الامريكية والمتحالفين معها في العراق، إلا أن مضامين ومفردات ذلك (التقرير) لم تصل في ذلك اليوم الى المجتمع الدولي، لا عبر (الصحافيين) ولا عبر (سيرجيو)، لكون الأوراق تناثرت واحترقت تحت الأنقاض، مثلما ضاع منا (سيرجيو) في تلك (الظهيرة السوداء)، وفاضت روحه، بعد أن ظل لساعات يعاني تحت الجدران الكونكريتية التي تساقطت عليه.

أنا في حينها، كنت في طريقي الى (فندق القناة) حين وقع الانفجار، ولم يكن هذا النوع من الانفجارات أمراً عادياً، فالإرهاب لم يكن قد بدأ بعد في بلاد الرافدين، وقد وصلت بعد 30 دقيقة من الحادثة، كانت النيران مازالت تشتعل والرعب والجرحى في كل مكان، عندها وصل (بول بريمر) ومرافقوه، لم يكن عنده شيء ليقوله للصحافيين الذين أحبوا (سيرجيو) كثيراً، واكتفى بالوقوف والنظر الى (مقبرة التقرير) التي ضمت أيضاً جثمان (سيرجيو) تحت الأنقاض مع 22 موظفاً آخرين لدى البعثة، بعضهم عراقيون وأجانب..

وبعد فترة من الحادث الأليم، جرى الإعلان عن إلقاء القبض على (مدبر العملية)، وهو الإرهابي (ارواز عبد العزيز محمود سعيد)، وبحسب القضاء العراقي اعترف بأنه ينتمي لتنظيم أبو مصعب الزرقاوي، ولا أحد يعرف حتى اللحظة لماذا قرر تنظيم القاعدة تدشين عملياته الإرهابية في العراق بضرب البعثة الأممية دوناً عن القوات الأمريكية.

وبعد مرور سنوات من يوم (الظهيرة السوداء)، التقيت مجدداً بالسيدة (كارولين لارييرا) المساعدة والصديقة والزوجة للسيد (سيرجيو)، وكان ذلك في مقر اليونسكو العام في باريس بمناسبة مرور 10 سنوات على استشهاد (سيرجيو)، وكانت السيدة (كارولين لارييرا) سعيدة عندما تحدثت معي بعد كل تلك السنوات، وكانت فرحة باتفاق نقل السلطة والسيادة للعراقيين الذي حصل بالاتفاق مع الامريكان عام 2011، وكانت تقول: إن هذا كان هدف (سيرجيو)، وبسببه سقط شهيداً في العراق، ومع أنني لم أقابل (كارولين لارييرا) مجدداً منذ عام 2013، حيث التقينا آخر مرة في باريس، لأخبرها بما جرى للعراق لاحقاً بعد أن دخل داعش بغزوة جديدة ليفتح الباب مجدداً لعودة (البساطيل الأمريكية).

ومازلت حتى الآن أشعر بروح (سيرجيو فييرا دي ميلو) ترفرف على شرق القناة في بغداد، رغم دفن جثمانه في (جنيف)، وكنت قد زرت قبره عام 2015 هناك، تحدثت مع القبر في حينها، قلت له: إن (العراق) بلد الشهداء العظماء على ما يبدو، وإنه فعلاً بوابة السماء للمناضلين من أجل الحرية والعدالة والمساواة.

مات (سيرجيو) في بغداد، وهو ليس أول شهيد من أجل الإنسانية يموت على أرض العراقيين، ولن يكون الأخير بحسب ما اعتقد، وهو ما أثبتته الأحداث منذ مقتل الحسين مروراً بسيرجيو ووصولاً الى أبو مهدي المهندس والقائد سليماني، وهو ما يجعلني بعد 20 سنة على تفجير مقر الأمم المتحدة أبكي، لكون البكاء على الشهداء جزءا من التقدير لهم، لعله يليق بأرواحهم العظيمة.

أدعوكم لمشاهدة فيلم (CERGIO) على شبكة (نتفليكس).

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *