مشكلة النص اللغوى ، أى نص – بما فى ذلك النص الدينى – تتلخص فى أن (المعنى) لا يقيم فى الكلمات (كما كان القدماء يعتقدون) ، كما أنه لا يكمن فقط فى (السياق النصى) ذاته (الجملة ، الفقرة ، النص ككل) ، وإنما – أيضا – فى الجمل والفقرات والنصوص الأخرى المكبوتة ، التى تم الحكم عليها بالصمت / مما جعل فلاسفة اللغة يقولون بأن تلك النصوص التى لا صوت لها ، هى التى أتاحت للنصوص المعلنة والمصرح بها (أو المجازة – أى التى يجوز المجاهرة بها) ، إمكانية الوجود – فهى (الآخر) المنفى ، والمسكوت عنه ، الذى يقيم بداخل النص المعلن ، كما أن هذا الأخير يؤسس علاقته بالوجود على ذلك (النص) أو تلك (النصوص) – وإن كانت علاقة (خفية) ، إلا أنه يستحيل الإمساك بالمعنى المباشر للنص دون تحديد ذلك النص الآخر .
بل وأكثر من هذا ، فالقارئ ، و (السياق – الإجتماعى ، التاريخى) المحيط به ، يلعبان دورا كبيرا فى الإمساك بمعنى النص – أى أن القارئ موفد من قِبَل سياق تاريخى محدد ، مما يجعله (أى المعنى) نتاجا لتقاطعات سياقية لا حصر لها ، معلنة وخفية …
هذا وما يجعل القارئ يرجِّح معنى على آخر ، هو (انحيازه) لأحد تلك السياقات ، دون غيره …
ما الذى نفهمه من هذا ؟ .
القارئ هو الذى ينتج المعنى ، القارئ لا النص … فالنص لا يقول شيئا محددا ، ذلك أن النص يتكلم بأفواه لا تعد ولا تحصى ، ليس من بينها فمه هو ؛ لأنه بلا فم .. / فلو أن للنص فم ، لو أن النص يتكلم ، لو يقول ما بداخله ، ما كنا بحاجة إلى (علوم التفسير والتأويل والتفكيك …) ، وما كنا اختلفنا على شئ .
ما نلاحظه هنا ، هو أن القارئ يعيد (تأليف النص) بينما يقرأه … ذلك أنه ، وتبعا لانحيازه (التاريخى ، الإجتماعى ، الأيديولوجى) المسبق ، يقوم بتحديد السياق الأولى بالإعتبار ، أى السياق الذى عليه أن ينسِب إليه النص ، وتلك عملية معقدة بشدة ، إذ تفرض على القارئ إعادة منتجة (نسبة للمونتاج) النص ، بإعطاء الأولوية لجمل وفقرات معينة ، وإهمال جمل وفقرات أخرى ، وهكذا …
حين نتناول (النص الدينى) ، ونحن نضع ما سبق فى إعتبارنا ، سرعان ما سيتبين لنا (كيف أن المناهج التفسيرية التى اعتمدها القدماء ، كانت قاصرة بشدة عن إدراك المعنى الدينى ، بل وكيف يمثل إستمرار تلك المناهج العتيقة فى الوجود إلى الآن ، وتجاهل علماء اللغة والدين لما انتهت إليه التطورات العلمية فى هذا الشأن ، استخفافا بالدين واجتراءا عليه وعلى الله نفسه / تحقيقا لمصالح دنيوية لا علاقة لها بالدين كدين) .
الخلاصة : يبدى رجال الدين المعاصرون رضاءً ملحوظا عن النظريات والمناهج اللغوية القديمة ، لأن (المعنى الموروث) الذى أنتهى إليه القدماء – الذين هم أكثر جهلا مما نعتقد – يمنحهم الفرصة لتوطيد سلطتهم ، ومن ثم مكتسباتهم التى يتبوءون بها مكانة المتحدثين (الشرعيين) باسم الله ، وبذا يتعالون على البشر والتاريخ والعِلم، ويصيرون هم (الله) نفسه .
ـــ يبدو أنها المعركة الأخيرة التى يخوضونها ، وبعدها لن تقوم لهم قائمة أبدا …