بعد عقدين من الزمن والتجربة ، يبدو ان معضلة توظيف الاعلام الحكومي لادوات حرية التعبير لازالت بدائية ،و بصورة عامة يميل هذا الاعلام للتعبوية ،وكأن مهمته الأساسية منحصرة بتوحيد وتعبئة الجماهير خلف الأيديولوجيا السائدة، وفي هذا الصنف من الاعلام تظهر مصطلحات ابوية المسؤول وقداسته وتضفى عليه الالقاب غير المهنية في الصياغات الخبرية لتأكيد هذه القدسية التي تناقض موقعه كموظف خدمة عامة خاضع للنقد والرقابة والسؤال في الانظمة الديمقراطية ، كما لا يوجد مساحة كافية لانتقاد السياسات التي يتبعها هذا الاعلام (غير الرصين ) مطلقا ،رغم وجود محاولات جادة لوضعه في خانة التقييم ،اخرها توجيه مكتب رئيس الحكومة لمراجعة اداء المكاتب الاعلامية في الوزارات العراقية والتي يمكن اعتبارها محاولة للنهوض بالكم والشكل والتحفيز على الانتاجية ،لا نوع الخطاب وتطوير مضامينه و الياته لتنسجم مع ما نحن بصدده .
ما يجب الاشارة اليه واستيعابه جيدا ان التحول الذي عاشه العراق بأنتقاله من نظام شمولي لنظام تعددي على المستوى السياسي ،لم ترافقه تحولات مشابهة في مؤسسات الدولة ،بمعنى ان النظام السياسي في واد والنظام الاداري الذي تعتمده الدولة في واد اخر ،ما سبب فجوة كبيرة وعطل الكثير من المشاريع التي تقود لاحداث تحول حقيقي ،فعلى مستوى الاعلام الحكومي لايزال الفهم السائد في تقييم دور الإعلام ينطلق من كونه احد الأدوات التي تخدم السلطة، وعلى الرغم من الانفتاح الذي مثلته القنوات الإخبارية غير المملوكة للدولة إلا أنها لم ترقى بمستوى خطابها وتأسيسات النظام الديمقراطي كما يجب ،اما الإعلام الحكومي فلم يكن موفقا في مواكبة التغييرٍ الديمقراطي ،فبات دوره منحصرا بمجال النقل والتعاطي المغلق مع الحكومة دون التأثير وصناعة الحدث وتسويقه لخدمة التحول الديمقراطي ودعمه بوصف الاعلام احد ادواته الرئيسية،ومنها تشجيع مسائلة الحكومة و ممارسةَ الرقابة على ادائها وترشيد هذا الاداء ،لتحقيق الغاية الاساس وهي خدمة الجمهور وتبصيره وتوظيفه ،كأداة ضغط لتحقيق المشاركة الفعالة التي يقتضيها وجوده كركن فعال في الانظمة الديمقراطية.
اشكاليات كثيرة على مستوى الاداء يمكن ملاحظتها في سلوك الاعلام الحكومي وحتى الاعلام الجهوي ذي البعد الايدلوجي ،قد يبدو ابرزها عدم تمييزه بين الحقيقة وضدها ، بمزج الاعلام التقليدي بالدعاية ، ويبدو في محل النقد البناء ان المكاتب الاعلامية الحكومية والتيارات السياسية ،لا تميز بين الغرض من كل نوع فالدعاية تعني نشر المعلومات بطريقة موجهة أحاديا عبر ضخها مجموعة من الرسائل المؤدلجة بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص ، كون الدعاية مفهوم مضاد للحياد والموضوعية في تقديم المعلومات، وقد يكون المعنى المبسط لها ، هو عرض معلومات منقوصة او مموهة بهدف التأثير على المتلقى المستهدف ،و تعتمد الدعاية بجوهرها على إعطاء معلومات غير مكتملة ومشوشة يشوبها النقص ،ما يعني تقديم معلومات كاذبة بحجب المعلومات الكاملة، للتأثير على الأشخاص عاطفيا عوضا عن عدم الرد بحيادية و عقلانية ، بخلاف الاعلام المفترض انتمائها اليه والذي يسعى لعرض الحقائق والمعلومات المتوفرة بحياد وتوجيهها لخدمة المواطن وتنمية وعيه بأهم القضايا مع التعريف بالمخاطر ومكامن الخلل ان وجدت.
ان دور الاعلام في التحول وما بعده يقوم على توافر أربعة شروط أو محددات رئيسة حتى تتمكن وسائل الاعلام من القيام بوظائفها الديمقراطية ،تبدأ بالقدرة على تمثيل الاتجاهات المختلفة داخل المجتمع بكل تنوعه الاثني والعرقي والايدلوجي ،ولابد هنا أن يتاح لكل هذه الاتجاهات فرصة الوصول إلى الجماهير، وأن تعرض أفكارها دون أية قيود من السلطة الحاكمة،كما ينبغي ان يكون الخطاب الحكومي شاملا و موجها للجميع ، ،اما الشرط الثاني فيجب توفير المعلومات للجمهور حيث إن توفير وسائل الإعلام للمعرفة يكون لصالح الأفراد والمجتمع في الوقت نفسه، ضمن دورة تكامل معرفي فالمجتمع الواعي يضم افرادا واعين وهو ما يجب ان يفهمه القائمين على الاعلام الحكومي،ثالث الشروط يفترض المساهمة الفعالة في تحقيق الوحدة الاجتماعية ،بمعنى مساهمة الاعلام في تقاسم المعرفة لتحقيق الوحدة،بأيجاد ثقافة عامة مشتركة لكل افراد المجتمع، فيما يتعلق بالشرط الرابع فيتلخص بحماية المجتمع وترى التنظيرات بهذا الجانب أن على الاعلام الحكومي ضمان قيامه بوظيفته لدعم التحول الديمقراطي بامتلاكه القدرة على حماية المجتمع، فيكون حارسا امينا على قيم المجتمع، مع الحرص جديا على الوقوف بوجه السلطة لاعبر التأليب ،بل بممارسة دور الرقيب والتأشير على مواطن الخلل والضعف للضغط عليها لحفظ مصالح هذا المجتمع بأجمعه ،ليتبين ان هذه الشروط هي ادوار في الواقع ينبغي على الاعلام عدم التنصل عن ادائها وتلبيتها كجزء من وظائفه.
ان على الدولة ومؤسسلتها مراعاة كل ما تقدم ، ومراعاة الحاجات الاساسية للشعب ،و التي تعتبر بحقيقتها التزامات اخلاقية وقانونية وادارية تفرضها وظيفتها،وان اي خلل او تقصير بادائها يتطلب اعترافا وتصحيحا فوريا ، فاستمراره يعني الاضرار وان لم يكن متعمدا ،اما التستر ومحاولات التغاضي فهي طعن وقصور بنزاهتها ومصداقيتها ،ان لم يكن محاولة التفاف وعدم ايفاء بمتطلبات تلك الوظيفة وما تتطلبه من حرص وقدرة ،قد يستدعي نسف شرعيتها ،لذا فأن ما يستدعيه الحال والمقال هو الركون لمراجعة شاملة ،تنتهي بترصين مفهوم الحدود ذي ابعاد واقعية حقيقية لا ترفية ،يجري العمل عليه باعتماد اهل الكفاءة والخبرة والتجربة، والحق ان اغلب ما جرى مراجعته عبر لجان ومجالس في مختلف المجالات لم يحقق الطموح كما يعاب عليه العشوائية ،وقد لا يكون مستوفيا للشروط و ضمن أطر وقواعد علمية مفهومة ، و يلاحظ فيه ايضا اوجه خلل كبيرة ،من قبيل اعتماد شخوص لا يمتلكون المؤهلات للقيام بهذا الدور ، وفي مورد اخر نجد الانتقادات اللاذاعة والاتهامات ،تشير لبعض توصيات مثل هذه اللجان وانها في واد وما ينبغي تحقيقه والعمل عليه في واد أخر ،كما توجد مخاوف واقعية من عدم نزاهة القائمين هذه اللجان المكلفة بالمراجعة والتقييم والذي يتمثل بميلهم لابتزاز الجهات المكلفين بتقويمها ،وحتى مع كون هذه المخاوف مشروعة ،الا انها طامة كبرى اكثر بشاعة من ابقاء الامور على ما هي عليه ..

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *