مثلما اختفى فجأة في هذه السنين من بين أيدينا عقيل علي وكزار حنتوش وحسين عبد اللطيف، غاب عنّا هذه الأيّام وإلى الأبد الشّاعر علي عيدان عبد الله، صاحب التّجربة الغنيّة والمهمّة في نسج الخيوط الأولى من بساط قصيدة النّثر في العراق، وسوف يسير جميعنا ويجلس ويهنأ بهذا الفراش. لولا الخطوة الأولى ما كان للطّريق أن يكون، وتمثّلت في ديوان شعريّ نشرته دار العودة في السّبعينات، بعنوان فيه نوع من التّاريخ التّأسيسي لهذا النّوع من الشّعر، هو “لائحة شعر رقم 1:
من يريد أن يصفني:
فغزالة
عبرتْ تواً كثيّباً من نار”
يمتزج الواقع بالخيال في تجربة الشّاعر، وتتزاوج الأسطورة كذلك مع الحاضر في بعث نوع من الحساسيّة الأدبيّة الجديدة لم يقربها القارئ من قبل، تستوعب التراث مع الحداثة في وعاء واحد، ونحصل بالنتيجة على إكسير يختصّ به الشاعر، وهو المضمار الذي تُختبر به الموهبة والأصالة والتفرّد. كتبتُ على صفحتي في يوم وفاة شاعري عنوانا لم يكن يجانب الحقّ، وإن عملت فيه أداة البلاغة: “أبو أعماق يسكن الأعالي”. هذا مصيره في الممات، وفي أثناء حياته فرض الراحل على نفسه عزلة شبه كاملة، فهو يظهر للناس مثل طيف قادم من الماضي أو المستقبل القصيّ، حتى إن طريقة عيشه كانت تشبه الخرافة، لكنها خرافة المعنى وليس الشّكل، فإنّك تراه من عامّة الناس بل هو يمثّل كلّ الناس، وكان يمتلك همّا واحدا في سيرته الإبداعيّة هو تحذيرهم من حالة اللاّ أمان التي يعيشون فيها. الشّاعرُ حذرٌ وقلقٌ على الدّوام، وواظب مع هذا على نشر كتبه مبتعداً تماماً عن أيّ تعامل مع المؤسّسات الرّسمية منذ سبعينات القرن الماضي، رغم تمكنّه من قصيدة النّثر التي يُعَدّ من أوائل من كتبوا فيها ورسّخوها نمطا جديدا في الشّعر.
“عامورا الجديدة
خذها في طريقك
أيّها السّيل”.
عندما يشيع الصّمت ولا يجرؤ أحد على خرقه، تأتي كلمة الشّاعر مثل صرخة خضراء يطلقها في وجه الظّلام طويل الأمد. يهوى علي عيدان عبد الله كتابة الشّعر الصّافي، مستلهماً في سبيل تحقيق ذلك تجارب الوجوديين والصّوفيين على حدّ سواء، ويحلو له أن يطبع قصيدته أحياناً بالصّبغة الثّورية والفوضويّة، تعبيرا عن خيبة أمل شديدة من كلّ ما يدور حوله، لكنّ الشاعر استطاع أن يداوم رغم ذلك على براءةَ الرّؤيا، وهي الصفة الأهمّ في الشعر الحديث، والأكثر نُدرة.