“في أوكرانيا، نحن نؤيد وقف الحرب. نريد أن تنتهي الحرب هناك”، “نحن نعارض الحرب والدمار في كل مكان في العالم، هذا موقفنا الثابت“.
إن صاحب هذا الكلام ليس مصلحا إنسانيا معروفاً بتكريس حياته للدعوة إلى نبذ العنف، وإلى الوسطية والمحبة والتسامح والسلام، بل هو المرشد الإيراني علي خامنئي الذي لا يؤمن إلا بالقوة والغزو والاحتلال والقتل والاختطاف والاغتيال. واسألوا العراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين والفلسطينيين عن سجله الإنساني الأخلاقي أو سجل حرسه الثوري ومخابراته ومليشياته الإرهابية التي لا ترحم.
ورغم أنه حاول أن يجعل نفسه في هذا التصريح الجديد الصادم محايدا وعقلانيا بقوله إن “جذور الأزمة الأوكرانية هي سياسات الولايات المتحدة والغرب”، و”إن النظام السياسي الأميركي يتغذى على أزمات مختلفة في أنحاء العالم” إلا أن موقفه هذا، بكل الحسابات والمقاييس، خيانةٌ للخبز والملح، ولرفقة السلاح والصواريخ والمفاعلات النووية والصفقات والإعانات، وغدرٌ من الوزن الثقيل بالحليف الروسي الذي حمَّل نفسه ودولته أحقاداً أمريكية وأوربية عميقة، ونوايا عدوانية مبيَّتة، من أجل إرضاء النظام الإيراني وإعانته على البقاء رغم كل الضغوط.
ألم يغامر بإدخال جيوشه الجرارة إلى سوريا لنجدة إيران بعد أن أوشك الثوار السوريون أن يقتحموا قصور حليفها السوري بشار الأسد، ودحر مليشاتها وتحرير سوريا من التبعية والقهر والاستعباد؟.
والذي لا يمكن إنكاره أن روسيا بوتين، منذ أول موجة عقوبات أمريكية، بدأت تتصرف بانتهازية نفعية مع إيران، بوجهين، الأول بتأييد النظام الإيراني، سياسيا، والدفاع عن جرائمه في المحافل الدولية، والمطالبة برفع العقوبات عنه، والثاني بدعمه عسكريا واقتصاديا وتكنلوجيا تحوَّل، سنة بعد سنة، إلى أهم عوامل بقاء النظام.
ولو دققنا في عدد استخدام روسيا بوتين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لحمايته، وللدفاع عن سياساته العدوانية في العراق ولبنان واليمن وفلسطين، لأدركنا أن بوتين، إلى يوم غزو أوكرانيا، لم يدخر وسعاً في تبرئة النظام الإيراني، وإنكار اعتداءاته على حقوق الجيرة، وتحدياته لجميع القوانين الدولية والأخلاقية والدينية، والتي لا تحتاج إلى دليل.
وأكثر ما جمع بينهما، ومعهما كوريا الشمالية والصين، هي مقولة (عدو عدوي صديقي). فكلاهما يحركه الكره لأمريكا، والسعي لهزيمتها، أو لضرب نفوذها في العالم.
وتصف الحكومة الروسية إيران، دائما، بأنها (الجارة الحسنة) التي يجب تأمين احتياجاتها الضرورية العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية، لمواجهة الضغوط التي تتعرض لها.
ورغم أن جمهورية إيران الإسلامية التي تنادي بتصدير ثورتها الإسلامية إلى كل بلاد المسلمين لنصرة المستضعفين وتحريرهم من قوى الظلم والاستعباد والاستكبار إلا أنها، اختارت السكوت عن الحرب الروسية الأولى ضد المسلمين في الشيشان، بين عامي 1994 و1996 وعبرت، بوضوح، يومها، عن دعمها لوحدة أراضي روسيا في مواجهة الحركات الانفصالية.
وقد عملت روسيا بمساعدة إيران على إنهاء الحرب الأهلية التي اندلعت في 1992-1997 في طاجيكستان. وكما دعم النظامان الروسي والإيراني معا قوات المعارضة الأفغانية ضد طالبان 1999-2013.
وفي البحث عن سر هذا الموقف الذي كافأ به حليفه الروسي في مأزقه الأوكراني نجد أن النظام الإيراني فوجيء بحجم الرفض الدولي الرسمي والشعبي الغزوَ الروسيَّ لأوكرانيا، وأدرك أن انحيازه لبوتين، في هذه المرحلة، يعني خسارته الاتفاق مع أمريكا على الملف النووي، ثم رفع العقوبات التي انتظر بلوغه عشرات السنين.
كما أن وقوفه بصراحة ووضوح مع أمريكا وأوربا وحلفائها وإعلان معارضته لروسيا يعني خسارتة الجدار الذي يسند ظهره إليه، خصوصا مع صعوبة التنبؤ بحقيقة الموقف الصيني المتأني المتأرجح من الغزو الروسي، والاتكال عليه.
ويحذّر المحلل الإيراني رضا نصري من أن إطالة أمد الحرب (في أوكرانيا) سيزيد التوتر في فيينا. وقال، بحسب وكالة “إسنا”، “إذا تسببت الأزمة بكارثة انسانية، نتيجة المواجهة العسكرية بين الغرب والروس، فسيصبح التعاون في فيينا مهدداً“.
وما يؤكد حرج النظام الإيراني الذي يفسره التصريح (العقلاني) للمرشد علي خامنئي أن وكالة (نور نيوز) شبه الرسمية ذكرت أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قال للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اتصال هاتفي يوم 25 شباط/فبراير، بعد يوم واحد من بدء الغزو إن “توسع حلف شمال الأطلسي يمثل تهديدا خطيراً لأمن المنطقة واستقرارها”.
كما غرّد وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان قائلا، “إن (أزمة) أوكرانيا متجذرة في استفزازات الناتو”، لكنه دعا إلى حل (الأزمة) ديبلوماسياً. أما وكالة أنباء جمهورية إيران الإسلامية الرسمية فقد حملت مسؤولية الحرب للجانبين.
إذن، فالمرشد الإيراني يؤمن بأنه لا يستطيع التخلي عن علاقاته الواسعة مع موسكو، كما لا يريد، الآن وفي هذا الظرف بالذات، أن يغرد بعيدا عن بوتين وقريبا من بايدن، واختار أن يبقى على التل، في انتظار الأسابيع، وربما الشهور القادمة ليتأكد من المنتصر ومن المغلوب، ثم يتخذ الموقف المناسب الجديد.
وهذه هي الانتهازية التي يسمونها براغماتية، ولتذهب المباديء والقيم الأخلاقية إلى الجحيم.