محاضرة ل اندرییە باومییستر
من الروسیە: شیروان محمود محمد
مقدمة لا بد منها:
اندريه باومييستر ، احد الکتاب الذين كنت اتابع باستمرار محاضراتهم في مجالات الفلسفة و الادب و السياسة علی الیوتیوب، وهو فیلسوف اوکراینی متخصص فی الفلسفة الاغریقیة و فلسفة العصر الوسیط و قد قام بترجمة اعمال فلسفیة من اللغات اللاتینیة، الاغریقیة القدیمة، الالمانیة و الفرنسیة الی اللغة الاوکراینیة، لكنە يلقي محاضراته باللغة الروسية.

اليوم استمعت الى اخر محاضرة له وهو يلقيها بادي التأثر و من مكان متواضع غير الستوديو المألوف له، و رأيت ان محاضرته تلقي الضوء ( من موقعە هو) على بعض الابعاد المستقبلية لهذه الحرب المجنونة و للقارئ الکریم ان يتفق او لا يتفق مع اراءه ولكنني رأيت بانها جديرة بالاطلاع عليها و و ها انا انقل لکم نص محاضرته او كلمته ولم احذف منها الا ما اعتبرته تكرارا غير مجدي ، اليكم المحاضرة التي هي بعنوان: ” الحرب في اوكراينا و الثورة الجيوبوليتيكية” ( المترجم)

عمتم صباحا اصدقائي الأعزاء، منذ فترة ولم التق بكم. كلكم على علم بما يجري الآن. منذ اسبوع و رحى الحرب تدور في اوكراينا، و من الطبيعي ان لا تتوفر الظروف المناسبة لممارسة حياتنا بالطريقة التي كنا نمارسها قبل الحرب. اريد ان اكرس هذا اللقاء الاول لتوضيح بعض الامور الهامة:

الامر الاول هو ان ما يجري في اوكراينا هو حرب حقيقية بكل معنى الكلمة، و ابدأ بالقول بان هذە الحرب لیس لها اي معنی بالنسبة لروسیا .. وکنت الی اللحظة الاخیرة، و بالرغم من کل التقاریر الاستخباراتیة، اعتبر احتمالیة قیام الحرب ضئیلة، وان لم استبعدها بالکامل، لانني کمواطن اوکرایني یعیش هنا، لم اکن اری ان ما کان الجانب الروسي، کصحافة او کمسؤلیین حکومیین ، يطلقه من تصريحات كان معبرا عن الواقع، وان تلك الحرب قد تكون (و قد أصبحت، باعتبار ان الحرب قد اندلعت) بداية النهاية للنظام البوتيني و لصفحات كاملة من التأريخ الروسي . تعالوا نحلل كل ذلك ببرود و موضوعية ( بقدر ما يمكن للمرء ان يمتلكهما في ظرف كهذا)

ان روسيا، وخلال العشرين سنة الماضية، وعلى الرغم من سياستها العدوانية، تمكنت من احراز انجازات محددة على المسرح العالمي، في كل من الشرق الاوسط، اوروبا، الصين والهند وفي بلدان امريكا اللاتينية، كما انها استطاعت و بالرغم من العقوبات التي فرضت عليها، الحفاظ على علاقات اقتصادية جيدة مع بلدان كالمانيا و فرنسا، وفي حال لو توفر تفكير عقلاني واستراتيجي كان الاستمرار على هذا النهج كفيلا بجعل روسيا، و على مدى بضعة عقود، احد مراكز القوة في العالم، كان لكل ذلك ان يصبح استثمارا مجديا في المستقبل.

ان ما اقدم بوتين و القيادة الروسية عليه من عمل عدواني يشطب على كل تلك المكتسبات التي احرزها هذا النظام، لقد عملوا بانفسهم على تدمير كل ذلك و لقد اصبحنا جميعا شهودا على ان روسيا و في غضون ايام قلائل اصبحت وتصبح، و بشكل مضطرد، معزولةً عالميا عن كل مجالات العلم، الرياضة، الثقافة، التكنلوجيا و قطاع الاعمال و التجارة، و اهم من كل ذلك انها تخسر الموالين لها في كل العالم ، حيث ان بوتين کان قد استطاع فعلا كسب موالين لروسيا من خلال لعبه ورقة محافظ تقليدي بصبغة دينية، ولكن حتى هؤلاء الموالون باتوا يديرون ظهورهم لروسيا و كل ذلك مؤشر لروسیا علی حقیقە ان هذە الحرب ایذان ببداية النهاية لمن يقودونها، و هذه هي الاعتبارات التي كانت تجعلني اعتقد ان اللجوء الى الحرب كان امرا لا عقلانیا، و ان روسيا ستکون في غنى عنها، اذ ان ذلک سيكون مدمرا لها في كل مناحي السياسة و الثقافة وغیرهما.

في احدى لقاءاتي مع التلفزيون الاوكرايني سبق لي و ان قلت بان قدر روسيا هو ان تكون جزءا من اوروپا ، اليوم اعي ان انحرافا قد جرى عن ذلك المسار ، فبدون التفاعل مع اوروبا و بدون التفاعل مع القيم و الثقافة الغربيتين، ستنزلق روسيا متراجعة الى عقلية و نظرة للعالم تنتميان الى نهاية القرن السادس عشر و بدايات القرن السابع عشر. اي انها لن تكون جزءا من اوروبا، ستکون هناک بالطبع مدن اوروبیة المظهر کسانت بترسبورغ و بعض الاجزاء من موسکو و مدن اخری و لکنها سوف لن تکون اوروبا، مع الوعي و التغییرات التي تحدث الان. ربما في وقت ما، لاحقا، سترجع روسیا الی العقلیة و سلم القیم الاوروبیة. قد یحدث ذلک في وقت قریب او بعید، ولکن لا شک ان ما یحدث الان هو تراجع الی ما قبل ٤٠٠ سنة من وقتنا الراهن. و انا اتحدث هنا عن القیم الثقافیة و الروحیە.

و الان لنرجع الی وضعنا نحن هنا، فاننا نحن مواطنو اوکراینا لسنا مجرد شهود، بل اننا نعایش کل هذا و نعانیە.
انە لامر یثیر دهشتي عندما اری قطاعات کبیرة من الروس تتلقی کل المعلومات و الاخبار الواردة من کل مکان عبر المنخل الدعائي الذی یقدم لهم.
انە یدهشني فعلا، فما الذي یتصورونە عندما یرون خارکوف تشتعل؟ هل یتصورون انها اوکراینا التي تقوم بابادة ذاتها ؟ ام ان تلک البیوت تحترق من تلقاء نفسها؟ وعندما یرون انە لیست فقط المواقع العسکریة التي تتعرض لوابل القنابل و الصواریخ، و عندما یتم تدمیر کل البنی التحتیة، هل یتصورون بان الاوکراینیین یقومون بتدمیر بلدهم بانفسهم وان اوکراینا اصبحت فضاءا من الڤالهال(١) حیث مجامیع من الابطال یقررون ان یشعلوا النیران في انفسهم و علی ارضهم ؟ الشیء الوحید الذي استثنیە و الذي یمکن للاوکراینیین ان یدمروها بانفسهم هي تلک المواقع التی لها اهمیة استراتیجیە عسکریة کالجسور مثلا، و ذلک بهدف اعاقة تقدم القوات الغازیة التی تتدفق من کل صوب، کل ماعدا ذلک هو تدمیر روسي مخطط لە.

لقد کانت الخطة تقضی باحتلال سریع لاوکراینا، وهو ما لم یحدث، علی الرغم من دخول الحرب لاسبوعها الثانی. واوجه هذا الکلام الى المواطنين الروس، و اقول لهم، ان ما خطط له لم يحصل و ان المجتمع الاوكرايني يتكاتف. بالتاكيد ان ظروفا كهذه تحمل معها الكثير من الشد العصبي ، بالاخص للمدنيين ، ولكنكم تشاهدون بان الروح القتالية للجيش عالية، وهذا يدل على خطأ الحسابات الايدولوجية التي كانت تعول على ان الحرب ستكون نزهة مريحة و ان الجزء الاكبر من الشعب سيستقبل الغزاة بالحفاوة و الاحضان، وانهم يتطلعون الى قدومهم، ولكن الواقع المعاش هنا يختلف عن حساباتهم و توقعاتهم . فهنا لا احد يحتفي بقدومهم، فبعد القصف الوحشي الذي تعرضت له المناطق السكنية ، وهنا اوجه كلامي للمواطنين الروس، اصبح من المتعذر كبح مشاعر الحقد و الغضب لدى الناس هنا، ليس فقط تجاه بوتين و قيادته السياسية و انما تجاه كل ما هو روسي . ارجو ان تعوا ما اعني، فعندما تسقط الضحايا بين المدنيين العزل فلابد ان تتدفق مشاعر الحقد و الرغبة في الانتقام ، مشاعر ان لا يجمعهم، مرة اخرط، اي شيء مع روسيا و مع حضارتها، حتى الأوروبية منها. فالناس يريدون اغلاق ذلك الفضاء بثقافته وتاريخه. كل هذا يعيدني الى ما طرحته في البداية. ان تصرف بوتين كان غير منطقي و لا عقلاني، لانه هو بالذات و قادته ، وليس القومييون الاوكراينيين، او مجاميع متطرفة ما، والتي توجد منها في كل بلد، عملوا على توسيع شقة الخلاف بين الروس و الاوكراينيين لعقود طويلة قادمة ، فكما نرى تنشط اليوم قضية انضمام اوكراينا للاتحاد الاوروبي ، و يجري العمل على قطع كل الصلات مع جيراننا في الشمال الشرقي ، ويتم رص الصفوف المجتمعية وكل هذا حصيلة متسارعة للتدخل العسكري الروسي ، فما ارادت روسيا ان تصده و تمنع حدوثه اصبحت تحدث بوتائر اسرع جراء هذه الحرب و تبعاتها العدوانية.

انتم، و هنا اوجه كلامي مرة اخرى للمشاهدين من الروس، و الذين تشاهدون القنوات الروسية و تصغون الى ما تبثه الآلة الدعائية، عليكم ان تفهموا بان ما يجري هو حرب و في الحروب تقتل الابرياء و تدمر المدن و القرى، و ما ارويه لكم هو بكل بساطة توصيف للوقائع وكل هذا يتم على ايدي وحدات نظامية للجيش الروسي وبشكل منظم و بالاخص اثناء الليل. و المواطنون يحاولون و قدر المستطاع ان يحموا انفسهم من القصف و ذلك باللجوء الى الملاجيء و محطات الميترو ولکن هناک من لا یستطیعون القیام بذلک لان بینهم حوامل و مرضی و مسنین، و مساکن کییڤ و خارکوڤ کما هو معروف تتکون من ابنیە متعددە الطوابق وهم یبقون فیها رهائن العدوان الغاشم .
.
نقطة اخرى اود طرحها هنا. وهي ان ما نشاهده الآن هو انقلاب جيوپوليتيكي كامل. لقد انطلقت عملية كان مقدرا لها ان تتجلى و تتطور بشكل بطيء جدا خلال سنوات. انها ثورة جيوپوليتيكية و التي سأخوض في تفاصليها في حديث لاحق. بالطبع ستتغير اوكراينا و لن تكون تلك التي اعتدناها. سيكون هناك اعدادا متزايدة من اللاجئين. فالعدد الحالي هو قرابة مليون و التوقعات تذكر اعدادا قريبة من ٥- ٦ ملايين، و بالطبع سيشكل ذلك ضربة لاوروبا و لانظمة التطور الاجتماعي و الاقتصادي لهذه البلدان. و لكن، يبدو لي من جانب اخر ان هذا الوضع الناجم عن العدوان الروسي سيوقظ اوروبا من حالة سباتها، من حالة حذرها الدائم من حدوث ما هو غير مألوف، حذرها الدائم من اثارة غضب هذا النظام التوتاليتاري او ذاك، وحرصها الدائم على عدم التورط و الاستعداد الکامل للمساومات، كل ذلك اصبح من ارث الماضي. من الان و صاعدا ستعمل اوروبا على تقوية جيشها، و قد تبدأ اوروبا بتذكر ان حضارتها الخلاقة قد ابدعت كل ما يحيط بنا من مظاهر التحضر في مجالات العلم و الثقافة و التكنلوجيا.
و انني الاحظ كيف ان اوروبا تعيش الان حالة من الاستيقاظ و التوثب و حتى هذا هو احد نتائج الغزو البوتيني لاوكراينا. ستظهر اوروبا من الان فصاعدا كقوة جديدة، و ما كان جزءا من المبادرة الروسية بخلق مركز للقوة سينتقل الى الصين و اوروبا و الى تركيا نوعا ما. اي ان عوامل الزخم الجيوپوليتيكية ستغادر روسيا و تتوزع على مراكز قوی عالمية اخرى. وقد كنت اتحدث في محاضراتي عن خمسة الى ستة مراكز قوة عالمية و كانت روسيا احداهن. الآن و مع التطورات الاخيرة يبدو لي انه بالامكان استبعاد روسيا من تلک القائمة لعقود قادمة.
فروسیا و عوامل قوتها ستؤل الى الاضمحلال التدريجي. قد تعود روسيا الى حالتها في تسعينيات القرن الماضي، و ذلك سيجعلها اضعف و معرضة لمشاكل جديدة، ولكن ذلك سيكون من هموم الروس وليس همومنا، وان كانت حالة كهذه ستؤثر علينا ايضا، فلدينا معها حدود مشتركة. وانا حينما اتحدث عن تلك الثورة الجيوبوليتيكية، فان ذلك المسار و تلك الحركة سيشكلان ما سنطلق عليه من الان قرننا الواحد و العشرين . لا بد و انكم تتذكرون حينما تحدثنا عما سيكون عليه القرن الواحد و العشرين و قلنا بانه سينطوي على مجموعة من الازمات من بينها الاوبئة، و تحديات الازمة البيئية و الازمات الديموغرافية و تقطع العلاقات بين المراكز و الأطراف، والان ستضاف اليها ازمة اخرى جديدة. فالثورة الجيوبوليتيكية ستؤدي الى ان هذا القرن سيكون مختلفا بالكامل عن الصورة التي كنا نتخيلها له. سيكون قرنا باحثا عن القيم و سيخلق ذلك بحد ذاته مشاكل و تحديات جديدة لا يمكننا الان تخيلها. هذه العملية انطلقت هذه الايام امام ناضرينا و ما يهمنا نحن، و حديثي الان موجه للاوكراینيين، انه في نفس الوقت الذي نشعر بغضب مبرر و مشروع ، ونرص صفوفنا في وجه العدوان، علینا ان نفهم باننا وفیما نحن ندافع فيه عن وطننا، مدعوون لان نصبح و بشكل مضطرد مركزا لاتخاذ القرارات، مركزا للقوة و مركزا للنشاط، علينا ان نوفر مصادر للبناء الخلاق. ذلك ان حشد القوة العسكرية وكرهنا للعدو و ترصيص صفوفنا لمواجهة الغزو كلها امور قد تساعدنا على الصمود وقت الحرب بل و ربما حتى علی كسبنا لها، ولكن تلك مصادر لا يبنى عليها البلد و لا تساعدنا على تطويرها. و مهما كانت خصال كالرجولة و التصميم مهمة في خضم الحرب، دعونا لا نرکن التعقل ، و التفکیر الاستراتیجي، و فهم تلک المهام التي تنتظرنا بعد الحرب، جانبا.
احبتي ادعوکم ان نبقی علی الرغم من کل شيء بشرا وان تبقی لدینا فسحة للتعقل و الانسانیة و القدرة علی التطلع الی المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *