مفهوم الأسطورة: تعتبر الأسطورة الرابط الفعلي، والجامع لماضي الأمم مع حاضرها ومستقبلها كذلك، ما جعلها مرجعا أساسيا يستند إليه الباحثون بصفة عامة، والأدباء بصفة خاصة، يقول في هذا الصدد بول ريكور: «دون نظرة الأسطورة التراجعية تحرم الثقافة من ذاكرتها، ودون نظرتها التطلعية تحرم من أحلامها» (الباحثون، فلسفة بول ريكور) وتعد الأسطورة إضافة إلى ذلك المغامرة الإبداعية الأولى التي ابتكرتها المخيلة البشرية فيما ابتكرته من المغامرات التي كانت صدى للواقع المعرفي والجمالي والتطور الإدراكي للإنسان (السواح 1981).
شكلت الأسطورة مادة خاما استلهمها الأدباء بشكل بارز للدلالة على أفكارهم المتمردة والمتطرفة، ولطبع الأدب (الشعر) طابعا غريبا غير مألوف؛ أي للدلالة على رؤاهم الفنية على نحو فلسفي، وهو من صفات الشعر الحداثي التفاعلي، حيث يبدو أن الأسطورة، «كانت المعين الأول للأدب عند كل الأمم السابقة، وبذا ترجع صلة الأدب بالأسطورة لاشتراكهما باللغة ثم صدورهما من مصدر واحد وهو المتخيل» (الخطيب، دراسة في النقد العربي الحديث 2006)؛ فالشاعر يسعى إلى استثمار الأساطير في نصوصه الإبداعية لصبغها بطابع فني تشويقي، فضلا عن إعطائها طابعا إنسانيا.
يمكن القول إن توظيف الأسطورة في الشعر العربي المعاصر كان نتيجة للقلق الحضاري الذي عاشه الشاعر في تلك الفترة، فلجأ إليها باعتبارها طاقة ديناميكية تحرك الأفكار، إضافة إلى تجريد اللغة من غنائيتها وتحويلها إلى بناء درامي متعدد الأصوات، وبالتالي الانتقال من التجربة الفردية إلى التجربة الإنسانية.
ثم إن ما يجعل الشعر يتطلع «إلى الاقتران بالأسطورة، هو وقوف اللغة عند حد معين في نقل أسرار الكون الذي نعيش فيه، والتي تتمثل لنا في أحسن الأحوال على شكل صورة أقرب إلى الإحساس الداخلي من أي تعبير لغوي» (الخطيب، دراسة في النقد العربي الحديث).
الأسطورة في شعر أدونيس
عند قراءتنا للشعر العربي المُعاصر نلمس تفاعلا بين الأسطورة والممارسة الإبداعية الأدبية، باعتبارها مادة حية تُحرك النص الفني وتُخرج قيمته الاجتماعية والوجدانية من حيز التنظير إلى حيز التطبيق، وهو ما دفع الشعراء لاستلهام الأساطير اليونانية وإسقاطها على المتن الشعري، محاولين الانفلات من النمطية والسطحية، فقد «استعان أدونيس عبر تجربته الشعرية الطويلة، بالأسطورة، باعتبارها أداة فعالة، تستطيع أن تستوعب شعوره ومعاناته. فلم يكتف الشاعر بالخروج على الوزن والقافية، أو التجديد الشكلي، والثورة عليه، بل وجدناه يجتهد دائما للبحث عن مصادر الأساطير» (زرقة، 2004).
ينفلت «أدونيس» من المعنى السطحي المباشر للأسطورة، بقلبه له، وتبني دلالات مضادة للمفهوم الأصل؛ باعتبار أن القصيدة الحداثية رؤية تتداخل فيها جل أشكال التعبير، وتتسع لجميع الأجناس الأدبية.
فنجده في قصيدته «صلاة» يقول:
صَليْتُ أنْ تَظَل في الرمادْ
صَليْتُ أَلا تَلْمَحَ النهارَ أو تُفيقْ-
لم نَخْتَبِرْ لَيْلَكَ، لمْ نُبْحِرْ معَ السواد؛
صَليْتُ يا فينيقْ
أنْ يَهْدَأَ السحْرُ وأنْ يَكونْ
مَوْعِدُنَا في النار في الرماد،
صليْتُ أنْ يقودنا الجنون.
(أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى)
استحضر أدونيس في هذه المقاطع أسطورة الفينيق (الفينيق طائر يعيش ألف سنة وبعد انتهائها ينبعث في عشه لهيب فيحرقه لكن تبقى فيه بيضة، يُعاود منها فينيق الحياة، وإن هذه القيامة أعطيت لفينيق من عند الإله، لأنه الطائر الوحيد الذي استنكر أكل حواء من الشجرة المحرمة) وهو رمز أسطوري يُراد به التجدد، كما يرمز إلى الخصب والنماء، غير أن أدونيس يُخالف المفهوم الإيجابي للأسطورة، ويجسدها في قالب مغاير-عكسي؛ باستخدام حقل دلالي سلبي، فالفينيق عنده يُعادل الرماد والسواد، «صليتُ ألا تلمح النهار أو تُفيق» «صليتُ أنْ تظل في الرماد»
فقد أفرغ أدونيس الدلالة الجديدة عوض الدلالة الأصلية على محتوى قصيدته؛ للتعبير عن نزعته التشاؤمية من الأوضاع التي باتت تعيشها الأمة العربية وتخبطها في المجهول، وكذا إحباطه من استحالة بزوغ فجر جديد على الوطن العربي..
يقول في مقطع آخر من قصيدته «إلى سيزيف»
أَقْسَمْتُ أَنْ أكْتُبَ فوق المَاءْ
أَقْسَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ مع سيزيفْ
صخْرَتَهُ الصماَءْ
أَقْسَمتُ أنْ أَظَل مع سيزيفْ
أَخْضَعُ للحِمى والشرارْ
أَبْحَثُ في المَحَاجِرِ الضريرهْ
عنْ ريشةٍ أَخيره
تكتب للعشب وللخريف
قصيدَةُ الغُبار
أقسمتُ أن أَعيش مع سيزيف.
(أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى)
أتى أدونيس بأسطورة «سيزيف» (أسطورة شخص عُوقب بحمل صخرة إلى أعلى الجبل، فما أن يوشك على الوصول حتى تتدحرج إلى أسفله، ويُعيد حملها إلى ما لا نهاية) وهو رمز يدل في عمومه على الشتات والضياع العربي، فيقحمه هنا الشاعر لتمرير سؤاله الأنطولوجي، والمتمثل أساسا في مآل الوجود الإنساني، هذا القلق الوجودي دفعه لتبني العبثية في تشكيل الدلالات، فعبارة «الكتابة على الماء» توحي باللامعقولية، ربما يُفسر هذا التوجه عنده إلى رؤيته التشاؤمية للحياة وللمجتمع على حد سواء، وهو هنا يتشارك مع شعراء العصر الحديث، الذي تفشت فيه ظاهرة الحزن بسبب الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة اليوم؛ أي أن الرمز الأسطوري في استخدامه الأدونيسي ما هو إلا ترجمة للصراعات الفكرية والثقافية والدينية التي تُواجه الفرد في ظل ثورات الربيع العربي، وانتهاك قدسية الإنسان الحر. ونستدل هنا بقول ألبير كامو: بأن أسطورة سيزيف أسطورة مأساوية، لأن بطلها غارق في الحزن والبؤس، ومصيره مرهون بالصخرة التي بين يديه. فيما يراه البعض رسالة إيجابية للتغلب على الضعف ومواجهة الصعاب، ويتمثل ذلك في تكرار سيزيف لعملية رفع الحجر، دون ملل أو تعب، فيصور لنا أنه أقوى من الصخرة؛ فقد قام أدونيس بإعطاء الصخرة رمزا إيجابيا جديدا (Masarwah، 2015) ويتجسد ذلك في قوله «أقسمت أن أظل مع سيزيف»؛ فعلى الرغم من معاناة سيزيف/الشاعر من المنفى والغربة الأنطولوجية إلا أنه يعمل في حركة مستمرة لنفض الحمولة السلبية عن ثياب الأفكار المتسترة بحجاب الرفض.
وفي مقطع من قصيدته «أبحث عن أوديس» يقول:
أبْحَثُ عنْ أوديسْ
لَعَلَهُ يَرْفَعُ لي أَيامهُ معراجْ
لَعَلَهُ يَقولُ لي، يَقولُ ما تَجْهَلُهُ الأمواجْ…
(أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى)
يأتي هنا أدونيس بأسطورة «أوديسيوس» (وهو ملك أنباكا وبطل الملحمة الأوديسية لهوميروس، الذي يعد رمزا للنفي والترحيل والاغتراب) للدلالة على اغترابه الروحي والفكري والمكاني، فيُناجي «أوديس» ليٌفرغ فيه حزنه وغربته.
لقد اختار أدونيس العودة إلى الأساطير الإغريقية دون غيرها من الأساطير الأخرى، لبناء رؤيته المختلفة المتفردة، ولتجاوز الحقائق الجاهزة والمسطرة في تاريخ العرب؛ من خلال اللعب الفني بالكلمات وإعادة صياغتها بما يتوافق مع نظرته الخاصة، رافضا بذلك المعاني الجاهزة ومحاولة خرقها وتجاوزها.
بين الجمالية والأنطولوجية في توظيف الأسطورة:
يتميز التوظيف الأسطوري عند أدونيس بترميزية عالية، لا يطالها إلا الناقد الحاذق، فكلماته منتفضة متمردة عن سياقها الخارجي، والتي توقع القارئ في اللبس والغموض، فرجوعه إلى الأساطير القديمة لا يتوقف عند البعد الفني فقط؛ وإنما يُحاول لم الشتات العربي ومحاولة الإجابة عن بعض التساؤلات الإنسانية المطروحة بشكل دائم ومستمر في الذاكرة العربية، من خلال تضمين شعره البعد السيريالي لخلق الإثارة والدهشة لدى القارئ، ولصبغ شعره صبغة إنسانية عالمية، متجليا هذا البعد في خرقه المستمر للمقولات المُتعارف والمُسطر عليها، مبينا ثورته وعدم خضوعه للثوابت المسيطرة على الذاكرة الجماعية، معلنا تحوله وانفتاحه على الأشكال الجديدة الملائمة لرؤيته الحداثية.
هذا القلق الوجودي سمح للشاعر أن يخرق تفاصيل الإبداع التقليدي، بترويضه لحيثيات الزمان والمكان، وإعادة تشكيلهما بما يتلاءم مع رؤيته اللامحدودة واللامتوقعة، وهو ما يخلق بذلك فاصلا فنيا ومسافة جمالية خاصة به دون غيره.