خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية،‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬قاطع‭ ‬الشيب‭ ‬أمام‭ ‬مخفر‭ ‬وهب‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬عندما‭ ‬قرأتُ‭ ‬في‭ ‬الملجأ‭ ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬فانوس‭ ‬قصيدة‭ ‬للشاعر‭ ‬عدنان‭ ‬الصائغ‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬حراس‭ ‬الوطن‭ ‬كانت‭ ‬مهداة‭ ‬إلى‭ ‬صديقي‭ ‬الحبيب‭ ‬حميد‭ ‬الزيدي،‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬النجمة‭ ‬المحترقة؛‭ ‬كتب‭ ‬الصائغ‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مقاطعها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أستذكرهُ‭ ‬تلك‭ ‬النجمة‭ ‬خرَّتْ‭ ‬يا‭ ‬جدي،‭ ‬أثارت‭ ‬القصيدة‭ ‬شجوني‭ ‬واسترجعت‭ ‬أيام‭ ‬دراستي‭ ‬مع‭ ‬حميد‭ ‬الزيدي‭ ‬في‭ ‬إعدادية‭ ‬زراعة‭ ‬كربلاء؛‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬سريري‭ ‬بجوار‭ ‬سريره‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الداخلي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬دراسية؛‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬شجعني‭ ‬على‭ ‬مطالعة‭ ‬الكتب‭ ‬الأدبية؛؛‭ ‬أذكرُ‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬وضعهُ‭ ‬بيدي‭ ‬كان‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬بعنوان‭ ‬زنوج‭ ‬وبدو‭ ‬وفلاحون‭ ‬للكاتب‭ ‬الأردني‭ ‬غالب‭ ‬هلسا‭. ‬عرفتُ‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬أنَّ‭ ‬الكاتب‭ ‬يساريا‭ ‬مثلما‭ ‬عرفتُ‭ ‬أنَّ‭ ‬صديقي‭ ‬حميد‭ ‬الزيدي‭ ‬شيوعياً‭ ‬للنخاع‭. ‬لما‭ ‬حانت‭ ‬إجازتي‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬جريدة‭ ‬القادسية‭ ‬حاملاً‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬التعويذة‭ ‬وأهديتها‭ ‬إلى‭ ‬حميد‭ ‬الزيدي‭ ‬الذي‭ ‬انقطعت‭ ‬أخباره‭ ‬عني‭. ‬لقد‭ ‬أخذتهُ‭ ‬العسكرية‭ ‬بعد‭ ‬إنهاء‭ ‬دراستنا‭ ‬في‭ ‬إعدادية‭ ‬الزراعة،‭ ‬بينما‭ ‬واصلتُ‭ ‬تعليمي‭ ‬الجامعي‭ ‬إذْ‭ ‬كنتُ‭ ‬من‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأوائل‭. ‬في‭ ‬ممر‭ ‬الجريدة‭ ‬التقيتُ‭ ‬بالشاعر‭ ‬عدنان‭ ‬الصائغ؛‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرفني‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت؛‭ ‬وكان‭ ‬حينها‭ ‬رئيساً‭ ‬للقسم‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬حراس‭ ‬الوطن،‭ ‬استرعى‭ ‬انتباهي‭ ‬أنَّ‭ ‬البدلة‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرتديها‭ ‬كانت‭ ‬عادية‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬جنود‭ ‬أبناء‭ ‬الخائبات؛‭ ‬وليستْ‭ ‬زيتونية‭ ‬أنيقة‭ ‬مثل‭ ‬أقرانه‭ ‬الذي‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬القادسية؛‭ ‬استوقفتهُ‭ ‬لأمسك‭ ‬بيده‭ ‬وسألتهُ‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬تعرف‭ ‬حميد‭ ‬الزيدي؟‭ ‬صفن‭ ‬بوجهي‭ ‬برهةً‭ ‬كأنَّه‭ ‬يستجلي‭ ‬مأربي‭ ‬من‭ ‬السؤال؛‭ ‬ولما‭ ‬اطمئنَّ‭ ‬لحالي؛‭ ‬عصر‭ ‬شفته‭ ‬السفلى‭ ‬بأسنانه‭ ‬ساخطاً‭ ‬وهمس‭ ‬بأذني‭ ‬بنبرةٍ‭ ‬مختنقةٍ‭ ‬لقد‭ ‬أعدموه‭. ‬اهتزَّ‭ ‬كياني،‭ ‬لقد‭ ‬صدمني‭ ‬النبأ‭ ‬بلا‭ ‬رحمة؛‭ ‬بينما‭ ‬غاب‭ ‬الصائغ‭ ‬عن‭ ‬أنظاري‭ ‬بغتةً؛‭ ‬بحثتُ‭ ‬عنهُ‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬الجريدة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لهُ‭ ‬أي‭ ‬أثر؛‭ ‬كأنَّ‭ ‬لقائي‭ ‬معهُ‭ ‬كان‭ ‬حلماً‭ ‬خاطفاً‭ ‬ترك‭ ‬نبلةً‭ ‬في‭ ‬مهجتي‭ ‬وتلاشى‭. ‬تركتُ‭ ‬مبنى‭ ‬الجريدة‭ ‬منكسراً‭ ‬وقصيدة‭ ‬التعويذة‭ ‬كأني‭ ‬أسمعُ‭ ‬نحيبها‭ ‬في‭ ‬جيبي‭. ‬اشتريتُ‭ ‬مظروفاً‭ ‬لأحشر‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬جوفه؛‭ ‬وكتبتُ‭ ‬عنوان‭ ‬مجلة‭ ‬حراس‭ ‬الوطن‭ ‬ثمَّ‭ ‬لصقتُ‭ ‬طابعاً‭ ‬عليه‭ ‬ورميتها‭ ‬في‭ ‬صندوق‭ ‬البريد‭ ‬الأحمر‭ ‬الجاثم‭ ‬أمام‭ ‬مبنى‭ ‬الهاتف‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬الرشيد‭. ‬كأني‭ ‬تخلَّصتُ‭ ‬من‭ ‬كابوسٍ‭ ‬مريعٍ‭. ‬كان‭ ‬آخر‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬صديقي‭ ‬حميد‭ ‬الزيدي‭ ‬فوق‭ ‬جسر‭ ‬المشاة‭ ‬في‭ ‬العلاوي؛‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬بدلة‭ ‬عسكرية‭ ‬شتوية‭ ‬بلون‭ ‬أخضر‭ ‬غامق،‭ ‬بينما‭ ‬كنتُ‭ ‬ارتدي‭ ‬الزي‭ ‬الجامعي؛‭ ‬فلقد‭ ‬قبلتُ‭ ‬بقسم‭ ‬المدرسيين‭ ‬الزراعيين‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬زراعة‭ ‬البصرة‭ ‬بوصفي‭ ‬من‭ ‬الأوائل‭ ‬على‭ ‬دفعتي؛‭ ‬لكن‭ ‬بسب‭ ‬تبعية‭ ‬شهادة‭ ‬جنسيتي؛‭ ‬جاء‭ ‬أمر‭ ‬نقلي‭ ‬بعد‭ ‬أسبوعين‭ ‬إلى‭ ‬المعهد‭ ‬الزراعي‭ ‬في‭ ‬كميت؛‭ ‬فالتبعيات‭ ‬لا‭ ‬يحق‭ ‬لهم‭ ‬التدريس‭ ‬ولا‭ ‬التطوع‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬أوامر‭ ‬الطاغية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬لكن‭ ‬المفارقة‭ ‬الموجعة‭ ‬بعد‭ ‬تخرجي‭ ‬من‭ ‬المعهد‭ ‬دخلت‭ ‬إجبارياً‭ ‬إلى‭ ‬الجيش‭ ‬وأمضيت‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬كسائق‭ ‬دبابة‭! ‬فرحَ‭ ‬صديقي‭ ‬حميد‭ ‬بلقائي‭ ‬وهو‭ ‬يمرّر‭ ‬يده‭ ‬النحيلة‭ ‬على‭ ‬سترتي‭ ‬الزرقاء؛‭ ‬قال‭ ‬بغبطةٍ‭: ‬تبدو‭ ‬مثيراً‭ ‬في‭ ‬الزي‭ ‬الجامعي‭. ‬واستذكر‭ ‬زيارتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬لمنزلهم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الكوفة‭. ‬كان‭ ‬المنزل‭ ‬حميماً‭ ‬شأن‭ ‬بيوت‭ ‬الكادحين‭ ‬ويقع‭ ‬بزقاق‭ ‬متعرج؛‭ ‬تناولنا‭ ‬الغداء‭ ‬هناك،‭ ‬أذكر‭ ‬أنَّ‭ ‬أمه‭ ‬أسمعتنا‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الشعبي‭ ‬وهي‭ ‬تقف‭ ‬خلف‭ ‬السور‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الثاني،‭ ‬وتعرَّفتُ‭ ‬على‭ ‬والده‭ ‬الذي‭ ‬يمطر‭ ‬طيبة‭ ‬وسخاءً؛‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬فوق‭ ‬رأسه‭ ‬كوفية‭ ‬مرقَّطة‭ ‬مثبَّتة‭ ‬بعقال‭ ‬أسود‭ ‬ويعمل‭ ‬كسائق‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الري‭. ‬أذكر‭ ‬أشقائه‭ ‬الصغار‭ ‬بعيونهم‭ ‬الذابلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشبه‭ ‬عينيه‭ ‬المنهكتين‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬القراءة‭. ‬في‭ ‬الزقاق‭ ‬الذي‭ ‬يفضي‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬عام‭ ‬لاحقتنا‭ ‬زمرة‭ ‬من‭ ‬الصبية‭ ‬وهم‭ ‬يهتفون‭ ‬شيوعي،‭ ‬شيوعي،‭ ‬فأخبرني‭ ‬أنَّ‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬فوَّضهم‭ ‬بتلك‭ ‬المهمة‭ ‬القذرة‭ ‬كلما‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬الدار‭. ‬أخذني‭ ‬إلى‭ ‬كورنيش‭ ‬الكوفة‭ ‬وكنتُ‭ ‬أحمل‭ ‬بيدي‭ ‬رواية‭ ‬الحلم‭ ‬الكاذب‭ ‬أو‭ ‬حلم‭ ‬العم‭ ‬لا‭ ‬اتذكر‭ ‬بالضبط‭ ‬لدوستويفسكي،‭ ‬قلَّب‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية‭ ‬بيده‭ ‬ليخبرني‭ ‬بأنَّها‭ ‬تجارية‭ ‬ثم‭ ‬تابع‭ ‬قائلا‭: ‬سأرفدك‭ ‬برواية‭ ‬كوخ‭ ‬العم‭ ‬توم‭. ‬ثم‭ ‬أخذني‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬للخياطة‭ ‬جلسنا‭ ‬فيه‭ ‬لدقائق‭ ‬لنخرج‭ ‬بعدها‭ ‬برفقة‭ ‬الخياط‭ ‬إلى‭ ‬منزله،‭ ‬جلسنا‭ ‬في‭ ‬باحة‭ ‬فسيحة؛‭ ‬كانت‭ ‬شقيقة‭ ‬الخياط‭ ‬تجلس‭ ‬معنا‭ ‬دون‭ ‬حجاب‭ ‬وترتدي‭ ‬فستانا‭ ‬أسود‭ ‬لحزنها‭ ‬على‭ ‬رحيل‭ ‬أبيهم،‭ ‬لكنَّ‭ ‬تهكمات‭ ‬صبي‭ ‬بعمر‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬كان‭ ‬يرتدي‭ ‬قميصا‭ ‬أسود‭ ‬أيضاً؛‭ ‬ملأت‭ ‬نفوسنا‭ ‬بالمرح‭ ‬والبهجة،‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬أنَّ‭ ‬الخياط‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬بأسى‭ ‬عن‭ ‬اعتقالات‭ ‬طالت‭ ‬بعض‭ ‬أصدقائهم؛‭ ‬وإذا‭ ‬بالصبي‭ ‬يقول‭: ‬عمو‭ ‬حميد‭ ‬ماذا‭ ‬يعتقلون‭ ‬منه؟‭ ‬وهي‭ ‬إشارة‭ ‬لنحافة‭ ‬جسد‭ ‬حميد‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬حد‭ ‬الهزال؛‭ ‬تذكرت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التداعيات؛‭ ‬عندما‭ ‬حاولت‭ ‬كتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬التعويذة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬لكني‭ ‬أخفقتْ؛‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬هل‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬أرسلتها‭ ‬في‭ ‬البريد‭ ‬إلى‭ ‬مجلة‭ ‬حراس‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬قد‭ ‬وصلتْ،‭ ‬أم‭ ‬احتفظ‭ ‬بها‭ ‬ساعي‭ ‬البريد؟

حسن‭ ‬النواب

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *