يذهب المثقف العربي لا سيما العراقي مع الريح، فيميل حيث الاتجاه، مفضّلا حبّ السلامة على الخصومات الفكرية والاجتماعية والسياسية، بل ينزوي في اللحظة التي تتطلب منه موقفاً.
أحداث مفصلية كثيرة في الفضاء العراقي، لم تخضع لها معالجات وبحوث حبّذت التماهي مع النخب السياسية والصفوة الاجتماعية المتنفذة، على التعاضد مع الممانعة والاحتجاج، وكأنّ الأمر لا يقلقها.
في الكثير من السياقات، تتملص المعالجات الثقافية والفكرية، بصورة مقصودة، من الخوض في مشكلات المواطن اليومية، التي تمسّ صميم حياته، لتنشغل في فضائيات ترفيّة، واستعلائية، لا يفهمها المواطن، ولا ينشغل بها.
على سبيل المثال، لا الحصر، بدى الشعر الشعبيِ، وأقوال المهاويل، والطروحات الشعبوية، أكثر تعبيرا عن الشقاء الشعبي، ليطغى على إعلام التواصل الاجتماعي، ويتناقله عامة الناس، بشغف، وتشيع مقاطع الفيديو بغزارة، فيما تغيب بضاعة النخب الثقافية والأدبية، عن الميدان، عدا الحلقات الخاصة والمتخصّصة.
أكثر من ذلك، يتماهى الكثير من المثقفين وأصحاب القلم والنقدة الاجتماعيين، مع ظواهر غوغائية ويبرّرونها، لتتحول الى أخلاقيات معترف بها، من قبل النخب وصنّاع الرأي.
وقد أدى ذلك الى تبرير الكثير من الفظائع، مثل المعارك الطائفية، والعنف العشائري، والأدبيات الاجتماعية السلبية.
يقول ألبير كامو، في نبوءة لما يحدث اليوم في الكثير من انحاء العالم، انه “عبر التاريخ فان الأفعال السيئة هي التي تتطلب تبريراً، أما اليوم فانّ الأعمال الجيدة هي التي تستوجب ذلك”.
نحن نعيش في أوقات غريبة، فحين نحتاج الى المثقفين من اليسار أو اليمين، نجدهم يتراجعون في اللحظة المناسبة، عن قيادة المجتمع لخلق نماذج مثالية، وهو ما حدث في العراق بعد العام 2003، حين انحسر المثقف عن الحدث وترك الساحة لغيره، وهو الذي كان يصرخ بانه مهمّش، وانه يريد ان يستعيد دوره.
بل انّ المثقف العراقي بكل اشكاله، فشل حتى في ترسيخ المجتمع المدني، الذي كان ضحية العسكرة واضطهاد الدولة طيلة عقود، لتتكرر المعضلة والتحريفية الجديدة، اليوم، على صعيد الممارسات الاجتماعية، والمؤسسات، والعلاقات الثقافية والسياسية.
المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والتكتلات العملاقة والشركات متعددة الجنسيات، على قوتها، تخشى الرأي العام الذي يصنعه المثقفون، الذين تحوّلوا الى قوة قسرية، قادرة على إخضاع الاتجاه العام الى قيم علاقات متوازنة وصحية، ولم يكن ذلك الا عبر تسخير القلم بجرأة وشجاعة في الخوض بأكثر الظواهر خطورة وحساسية.
نحن نعيش أزمة فكرية وإعلامية، ذلك ان الخشية من القوى السياسية والاجتماعية المهيمنة، يعني التنازل عن الدور في توجيه المجتمع، وجعله ضحية الخداع السياسي والرجعية الاجتماعية.
نحن نعيش حالة رأي عام تفرضه اجندة طوارئ فكرية فوضوية، لغاية نضوج ثورة فكرية يقودها أولئك الذين يتشبثون بالمبادئ، ويمتلئون باليقين الجذري، وحتى تلك اللحظة، سنبقى رهينة بأيدي أولئك الانتهازيين الذي يتقافزون بين الأيديولوجيات والسياسات.