أولا: يجب أن نميز جيدا ما بين “جمالية التلقي” وبين “علم اجتماع القراءة” من حيث انهما نظريتان تختلفان فلسفيا واجرائيا عن بعضهما البعض في مقاربتهما لظاهرة القراءة. تؤكد مدرسة ” كونستانس” ذات الاتجاه السيميوطيقي على إن لكل من النص والقارئ “أفق” انتظار خاصا بهما، يتكون من معايير جمالية معينة، وإن التجربة الجمالية في القراءة تكمن في اتحاد الأفقين معا، وإن هذه التجربة يمكنها أن تكون هادمة لتلك المعايير، أو داعمة لها أو منتجة لمعايير جديدة. وبما إن هذه المعايير تتعلق بالأنساق الجمالية للإدراك، فلا تولي “جمالية التلقي” أي اهتمام للأصل الاجتماعي للأشكال الجمالية للتجربة، ولا للشروط السوسيولوجية لتجارب القراء ورغباتهم ومصالحهم الذاتية. ولكن بالنسبة للقراءة السوسيولوجية، كما عند “جاك لينهارت” مثلا، فبما أن الأمر يتعلق بتحليل يقوم بالأساس على مقولات جمالية، فإن قياس “الأفق” يبدو بمثابة تصور معياري مسبق تبرره مصالح الذات القارئة ورغباتها، وحتى تجاربها الماضية. وهي توضح بنية تأويلات النص وتعددها على مستوى الإشكاليات التاريخية والأخلاقية والأيديولوجية المعبــَّر عنها إما بشكل صريح أو بشكل مستتر، في النص الادبي، وأيضا على أساس اختلاف أبنية القراءة الذهنية والذوقية. ولأجل كل هذا يقول “هانز روبرت ياوس”: لا ينبغي الخلط بين جمالية التلقي وبين سوسيولوجيا القارئ التاريخية التي لا تهتم سوى بمصالح القارئ الأيديولوجية وتغييرات ذوقه الشخصي”.
ثانيا: ثمة تمييز مهم بين مدارس نقد النص (النقد الجديد في أمريكا، الشكلانية البنيوية) وبين مدارس نقد القارئ (مدرسة كونستانس من ضمنها) وهو يتعلق بقضية “المعنى”. إذ أين يا ترى يتموضع المعنى؟ أفي النص أم في القارئ؟ وعلى أية حال فإن تموضع المعنى كما يقول “رامان سلدن” يكون مشكلة فقط عندما يفترض المرء إن تعيين مكان المعنى هو كل هدف الفعل النقدوي. وهكذا، فإنه على الرغم من إن كلا النقدين لا يموضعان المعنى في المكان ذاته، فإن كلاهما يفترض إن غاية النقد الرئيسية هي تعيين المعنى. إن هذا الافتراض، يقول “سلدن”، لا يجمع بين هاتين الطريقتين في النقد المتعارضتين بعنف فحسب، بل إنه، أي: افتراض تعيين المعنى، يوحدهما معا في مواجهة تاريخ طويل من التفكير النقدي، لم يكن فيه تعيين المعنى هو المهمة الرئيسية.
ثالثا: ومن جهة أخرى، فإن التمييز بين “التلقي المتصور على أنه معنى”، وبين “التلقي المتصور على انه فعل أو سلوك” لا يفصل تصور “التلقي” في الوقت الحاضر عن التصور الكلاسيكي للتلقي فحسب، بل يعزله عن طريقة التلقي الأدبية كما فهمها معظم النقاد قبل القرن العشرين. فعندما يتم تصور العمل الأدبي بوصفه موضوعا للتأويل فإن “التلقي” سوف يفهم بوصفه طريقة للوصول إلى المعنى وليس شكلا للسلوك السياسي او الأخلاقي.
رابعا: ملاحظة بشأن “نسبية التواصل الأدبي”: إن التأثر الأدبي المنشود لن يتحقق إذا كان المتلقي لا يتقبل المحتوى الانفعالي للرسالة (واضعين في بالنا مخطط ياكوبسون” الشهير) وما دام الأمر كذلك فإن القارئ لا يقوم بوظيفة سلبية في عملية التواصل الأدبية باعتباره مجرد متلق فيها، بل إن وظيفته بالغة الإيجابية والديناميكية. فالقارئ يتدخل في خلق العمل الأدبي ابتداء من تصوره الأول له، ممارسا دوره بشكل نشيط جدا، ومن موقع المؤلف نفسه حيث ينظم وضعه اعتمادا على أعراف أو أكواد القراءة المتاحة له. فالمؤلف يكتب بشكل يدعو القارئ لأن يتقبل ما يكتب، وبدون هذا التقبل لا وجود للأدب. ويقول الدكتور صلاح فضل في دراسة له عن أساليب الشعرية العربية (مجلة عالم الفكر عدد 3-4 لعام 1994) إن التقبل هو الذي يمنح الأدب مشروعيته وكذلك القارئ وهو ينمو على شكل استعداد أولي قبيل القراءة في صورة قابلية، ثم يتطور عند الاتصال بالنص الى قبول مبدئي أو تقبل مضاعف بتعبير الدكتور صلاح فضل حتى ينتهي إلى درجة عليا من ممارسة لذة النص التي تصل الى التماهي الإيروسي معه.
خامسا: التأويلية الأدبية كما عند “ه. ر. ياوس” تدين للتأويلية الفلسفية كما عند “ه. ج. غادامير” بالمبدأ الذي يتطلب الاعتراف بالنسبية الملازمة لكل تأويل، وكذلك بمبدأ اللحظات الثلاث المكونة لفعل التلقي وهي الفهم والتفسير والتطبيق.
سادسا: تدين “جمالية التلقي” كذلك لأمبرتو إيكو لمفهومه حول “العمل المفتوح”، وأيضا لرفض مركزية اللوغوس وإعادة تقييم النص الادبي عبر وظيفة التحول الاجتماعي. وتتقاسم مع البنيوية هذه المفاهيم إلا ان “جمالية التلقي” تتميز عن البنيوية فيما يخص مسألة مكونات المعنى، فبينما تؤكد هذه الأخيرة ان المعنى يتولد من الإنتاج في فعل التأمل والذي هو “الكتابة” بالنسبة اليها، يفسر الألمان المكونات المستمرة للمعنى عبر التبادل والتفاعل ما بين نشاطي الإنتاج والقراءة الأدبية. هذا الحديث في المديونية يعود بنا مرة أخرى الى باب “التمييزات”، فالخطوة الأولى المنهجية التي تقود التمييز الفرنسي بدوره من “العمل” الى “النص” تتبع بخطوة ثانية- بالنسبة للنظرية الألمانية- تقود من “الفاعل” الذي يكتب الى “الفاعل” الذي يقرأ ويحكم.
سابعا: وتدين التأويلية الأدبية عند “ياوس” كذلك لـ “هارولد بلوم” بشكل كبير. فالعلاقة بين المؤلفين تفسر في شكل الأجوبة التي يعطيها الكتّاب الأبناء للمسائل التي تظل معلقة من قبل الكتّاب الآباء. ففي كتابه “خريطة للقراءة المغلوطة” الصادر عام 1975 يبين لنا “ه. بلوم” كيف يمكن للشعراء الأبناء أن يتغلبوا على الخوف من التأثر بآبائهم وذلك بتبني ستة دفاعات نفسية كلا على انفراد أو بالتتابع ستسمح لشعرهم أن ينحرف عن شعر آبائهم. وهذه الدفاعات الستة هي: التهكم والمجاز المرسل والكتابة والمبالغة والاستعارة، والاستعارة المكنية. ويستعمل “بلوم” ستّاً من الكلمات الكلاسيكية لوصف هذه الأنواع الستة من العلاقة بين نصوص الآباء ونصوص الأبناء، وهي: (بالنطق العربي)، كليمانين، تيسارا كينوسيز، دايمونيزيشن اسكيسز، أبوفريدز. ويقترح الدكتور “سعيد علوش” المقابلات الترجمية التالية وبالتسلسل نفسه: التصحيح أو الانحراف الاستكمال المضاد الالقاء الظهور غير المنتظر للنتائج التسامي والعودة الى المعنى الأصلي المفتقد (انظر مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 38 لعام 1986 ص 110 مدرسة كونستانس الألمانية).
ثامنا: فيما يخص مفهوم “الوظيفة الجمالية” والتمييز بين “ميكاروفسكي” و”ياوس”، فنقول انه عند “ميكاروفسكي” الوظيفة الجمالية مبدأ مفرغ ومتعال يسمح بتنظيم وإدامة مجمل الوظائف في العالم المعاش والوظيفة الجمالية لا تتكون إلا على حساب إلغاء باقي الوظائف التطبيقية والتواصلية. أما عند “ياوس” فالوظيفة الجمالية تكمن في المتعة الجمالية التي تتحدد كمتعة من تلقاء نفسها في متعة الاخر، وتفتح دائرة التفاعل التواصلي.
دعونا هنا نفتح هامشا في المتن: فبشأن “انصهار الآفاق”، تعترف “جمالية التلقي”، كمنهج، بقيودها التاريخية، لكنها تظل قادرة على النظر في بعض التأويلات الأخرى، بوصفها طرحا لأسئلة غير مشروعة، أو موضوعة بشكل زائف. ويبدو إن انصهار أو اندماج الآفاق ليس تذويبا كليا لجميع وجهات النظر التي ظهرت، بل فقط هو إدماج لوجهات النظر التي تبدو للناقد التأويلي جزءا من “كلانية” تنبثق تدريجيا عن المعاني التي تكون الوحدة الأصلية.
تاسعا: ذكر الاتجاهات الفكرية التي تستجيب لمفهوم “الأفق”: لقد أخذت بعض المنظومات الحالية بالتساؤل حول المقدمات التأويلية لعملها، وتستخدم مفهوم “الأفق” بطريقة ضمنية أو صريحة. ويُجمل “ياوس” بنفسه جدولا بهذه الاتجاهات. ففي علم اجتماع المعرفة من حيث هو حقل موضوعي وفي نظرية العلم من حيث هي إطار مرجعي يولد معاني الأعمال والملاحظات كما عند “كارل بوبر” وفي التحليل المنطقي كما عند “فريغه” وفي علم الدلالة التوليدي كما عند “بركلي”، تمت الاستفادة من مفهوم “الأفق” متصورا من زاوية “التأويلية”. وإلى ذلك يضيف “ياوس” اسم “فوندرليش” فيما يخص حقل “اللسانيات التداولية” من حيث هي فروض الخطاب. ويوجد هذا المفهوم كذلك من حيث هو مستوى “التماثل” (الايزوتوبيا) في علم الدلالة التركيبي كما عند “غريماس”. ويتجلى مفهوم “الأفق” كذلك، من حيث هو نظام ثقافي في السيميوطيقيا عند “يوري لوتمان” ومن حيث هو سياق موقفي في نظرية عملية الكلام كما عند “شتيرله” تلميذ “ياوس”. أما في الأسلوبية البنيوية فإن مفهوم “الأفق” يستعمل من حيث هو “تناص”، وفي الفلسفة التحليلية من حيث هو لعبة لغوية تجعل من الممكن تكوين أي فهم للمعنى، وتحقيق ما كان يجب أن يحققه في السابق الشكل المنطقي للغة الدقيقة، التي يمكن اعتبارها صورة عن العالم.
* فصل من كتاب سيصدر قريبا بعنوان “نقد التحدي والاستجابة” عن منشورات مومنت بالمملكة المتحدة