قد يكون عنوان المقال: «الورديّ.. مِن الإماميَّة إلى الزّيديّة» مثاراً للتساؤل، وخصوصاً عالم الاجتماع العِراقيّ عليّ الورديّ لم يكن له شأن بانتماء مذهبي أو عقيدة دينيّة، صحيح أنّه مِن أُسرة شيعيّة إماميَّة، ومِن سكنة الكاظميّة الشّيعيّة، إلا أنّه كان ناقداً رافضاً للجدل المذهبيّ العقيم، في كتبه.
فكان مِن الغرابة أنْ يكتب مقالاً عنوانه «لماذا صرتُ زيديَّاً، عندما لعنني النَّاس وشتموني»، نشره في مجلة «الأسبوع» (العدد 11/1957)، ومِن مقدمة المنشور نجده جاء تعليقاً على «الأسبوع» نفسها، عندما أجرت معه مقابلة عنوانها: «حوار على الدَّراجة مع علي الوردي»، وفيها سأله المحاور خليل الشّيخ عليّ: «إذا كان لا يزال كأحد أفراد الزّيديَّة»(مجلتا الأسبوع وقرندل: 10/ 1957).
قال الوردي في مقاله: «سألتني مجلة الأسبوع في العدد الماضي عن عقيدتي الدينية، حينها بأني زيديّ العقيدة، وأني من أتباع الإمام زيد بن عليّ، وقد أغضب هذا الجواب جماعة» (مجلة الأسبوع). على اعتبار أنّ هذا الإعلان كان تمرداً على مذهب الأسرة. ثم وضح ذلك قائلاً: إن اعتقاده بالزّيدية بشروطه هو، لا بشروط المذهب وتطوراته، «ولستُ أدعي بأن مذهب زيد خالٍ مِن العيوب، إذ إنَّ مِن المستحيل على أي إنسان أنْ يأتي بالكمال في شيء».
بطبيعة الحال، الزيدية لا يعتبرون زيداً معصوماً، لكن سيكون الغضب أشد لو قالها الورديّ في مذهب أبويه، حيث عصمة الأئمة. كان الوردي، حتى عام (1957) يقول: «الحقيقة التي لا أتردد عن إعلاني لها، هي أنني مازلتُ أعتبر عقيدة زيد بن عليّ، هي العقيدة الوسطى في الإسلام» (الأسبوع وقرندل).
لم نقرأ له بعدها عن انتماء لهذا المذهب أو ذاك، ففي الوضع العراقي لا يليق بالمثقف، مِن مستوى الوردي، حشر نفسه في مذهب دون آخر، وخصوصاً في الخلافات الكبرى، التي تُهدد الوطن ككل. فمِن رأيي في حدة الخلاف، الفاشي بين النّاس، أن يكون المثقف في الجدل سُنياً بين الشّيعة، وشيعياً بين السُّنة، كي يخفف مِن وطأة الاحتقان الطائفي.
إنَّ ظاهرة إعلان الورديّ اعتناق الزّيديّة، وهي ليست شائعة بالعراق، تُبنى عليه أفكار مهمة، ومنها أن الزيدية- مثلما كشف الورديّ عنها- تتحلى بوسطيّة، خصوصاً في الوضع العراقي، فزيد بن عليّ (قُتل: 122هـ) يعترف بخلافة الشّيخين، كواقع حال لا يمكن تجاوزه، ويعتبرهما مِن قادة الإسلام الأوائل، وثانياً، وهذا لم يذكره الورديّ، ربّما كان تجنباً للإثارة أو لم يطلع عليه، وهو أن الزّيديّة حلت مسألة خلاف الإمامة حلاً واقعياً، فالماضي لا يعود، والضَّغائن ستستمر تدمر الأتباع جيلاً بعد آخر، لذا أجاب زيد، عندما سئل عن الوصية لجده علي بن أبي طالب (اغتيل: 40هـ): أنّها إمامة العِلم والفقه، وليست السّيف والسِّياسة، فعندما أتاه المنصب السّياسي تولاه وأصبح خليفةً (انظر مصدرين زيديين مهمين: الحميريّ، الحور العين. ابن المرتضى، المُنية والأمل في شرح الملل والنِّحل). عندما أعلن الورديّ تحوله، قصد الامتعاض مِن الواقع المذهبيّ، فاندفع إلى الوسطية، وقد حسب التصريح بما اعتقد لا يغضب أحداً، فزيد ابن الإمام الرابع عند الشيعة، وفقهه منفتح على المذاهب كافة، وخصوصاً المذهب الحنفيّ(أبو زُهرة، الإمام زيد).
ظلّ الوَّرديّ (وهذا الموقف 1957) مع آراء الإمام زيد، وليس مع المذهب في تحولاته، والقول له: «كما حادت جميع الملل والنِّحل عن مبادئ مؤسسيها الأولين» (مجلتا الأسبوع وقرندل). غير أنَّ الورديّ لم يعش زمن ظهور الحركات التي ظهرت باسم زيد، وما جرى في العشرين سنةً الماضيّة، مِن كراهيات ومقاتل بعقر دار الزّيَّدية باليمن، وما حصل ببلاده. أقول: ومع غرابة الأمر، لمَن عرف وقرأ الورّديّ، كانت تجربةٌ لعالم اجتماع، دخوله المختبر بنفسه.