من الضروري بدرجة قصوى ان يتكون وعي جماعي، ولا اقول اجماعي، بجوهر المشكلة التي يعاني منها العراق، دولةً وحكومة واحزابا ومجتمعا وافرادا، في الوقت الحاضر. وان ينطوي هذا الوعي الجماعي على معرفة ان هذه المشكلة بجوهرها، ولا اقول بمظاهرها وافرازاتها، تعود الى مئات السنين مضت من عمر المجتمع العراقي، حتى لو اكتفينا بالمئة سنة الاخيرة. وجوهر المشكلة ان قطار المجتمع العراقي بسياسته واقتصاده وفهمه للدين وغير ذلك خرج من سكة السير الحضاري للمجتمع ليقع في مطبات كثيرة كانت ومازالت تعيق اي محاولة اصلاحية للمجتمع. وهذا ما نسميه بالتخلف الحضاري، وهو عبارة عن خلل حاد في المركب الحضاري للمجتمع ومنظومة القيم العليا الحافة به. وحين يقع المجتمع في هذه المشكلة فانه سوف يعجز عن اقامة اقتصاد انتاجي، مثلا، وان يقيم حكومة عادلة، وان يسود حكم القانون، وان تنمو المؤسسات وتستقر، وان يظهر المواطن الفعال، وان تستثمر الثروات الطبيعية بشكل يحقق الرخاء والرفاهية للمجتمع، وان تتماسك الدولة، وتضعف والراوبط السابقة للدولة الحضارية، ويتدنى مستوى التعليم، وينخفض منسوب الثقافة عامة والوعي السياسي خاصة، وغير ذلك.
لا بأس ان اذكر ان اول محاولة اصلاحية جرت قادها حاكم العراق الاول بعد سقوط الخلافة العباسية عام ١٢٥٨، علاء الدين عطا ملك الجويني، ثم جرت محاولات اصلاحية عديدة اخرها الدعوات الاصلاحية الحالية، مرورا بمحاولات بعض الولاة العثمانيين امثال الوالي مدحت باشا (١٨٢٢-١٨٨٤) اصلاح احوال العراق، دون ان ننسى الاحزاب ذات الاطروحات الايديولوجية مثل الحزب الشيوعي وحزب الاسلامية.
لكن كل المحاولات والجهود الاصلاحية فشلت بهذه الدرجة او تلك لانها كانت اما اجراءات فوقية، او قرارات ترقيعية، او دعوات شعبوية، او ايديولوجية جامدة، وغير ذلك من الاسباب التي يجمعها جامع واحد هو انها لم تكتشف او لم تعالج العلة الحقيقية وهي التخلف بالمعنى الذي ذكرته قبل قليل.
لا يفوتني ان اذكر ان الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر كان من القلة الذين اكتشفوا هذه العلة وشخصوها، وعمل على معالجتها من موقعه كمرجع ديني اسلامي، لكن الطاغية صدام اجهض مشروع الصدر الحضاري بتصفيته جسديا، ومعه غابت الاطروحة الحضارية للقضاء على التخلف، وبالتالي وضع العراق على الطريق الحضاري الصحيح.
لا يفوتني ان اذكر ان الازمة الحضارية للمجتمع العراقي تفاقمت بعد استيلاء البعث على السلطة في عام ١٩٦٨ بسبب الطروحات التي كان يتبناها الحزب وبخاصة فكرة الحزب القائد والقائد الضرورة وعبادة الشخصية. ثم زادت الازمة حدةً بسبب الاحزاب التي تولت السلطة بعد سقوط حكم حزب البعث والتي لم تكن بمستوى الحل الحضاري لا وعيا ولا ثقافة ولا ممارسة، واستطاعت ايصال العراق الى ما وصل اليه الان، في قعر المعيار او المؤشر الحضاري للدول والمجتمعات.
لا يمكنني القفز على هذه الحقيقة المرة التي يعاني منها ومن اثارها المجتمع العراقي والمواطن العراقي. بعض الناس لا يدركون هذه الحقيقة، فيردون على هذا القول بانهم “شبعوا من التنظير”، والواقع انهم لم يتلقوا تنظيرا يكفي لحل الازمة والخروج منها، او انهم اداروا وجههم عن التنظير الصحيح، فبقي المجتمع العراقي يتخبط في البحث عن مخارج للازمة دون جدوى.
لكن هذا لا يعني ان الحالة ميؤوس منها، فانا المس من خلال المتابعة والاتصالات الشخصية ان هناك عددا جيدا من العراقيين اصحاب العلم والثقافة والوعي اللازم لانتشال العراق من حالة التخلف واعادته الى الطريق الحضاري الموصل الى السعادة. لكن هناك الكثير من العوامل التي تعيق هؤلاء عن التحرك والعمل. وهذا موضوع اخر ذو شجون.