ربما الحالة التي اصبت بها. قريبة للاحباط التام. الحر والرطوبة، والتطرف العنصري في قبرص. وسفر وحيدي الذي طل علينا لفترة قصيرة/ طويلة. تركنا ونحن لم نبدأ الدردشة بعد. الفراق والعودة الى الروتين كوميديا العتق، سبب الاحباط، لربما ما تعودت علية من علاقة الوالد بوحيدة، أي تكرار ما جبلت عليه. ربما التصرف يختلف كليا. لكن المبدأ والعلاقة والتواصل لازال هو الاساس في العلاقة. رغم الفارق في الزمن والبيئة وحتي ربما المستوى المعرفي والاته المتحضرة فرق اكثر من نصف قرن من التغيرات الجغرافية .
خير ما ذكرت هذه العلاقة في ” التوبوس” حكاية زمان ومكان، احد كتب ثلاثيتي .
قلت فيها اذكرها وانا على يقين انها فاتت كثير من متصفحي كتبي ، من غير الشباب قرائي المخلصين
كتبت …… !
كل من سكن ١٣/٢/٣٠ يعرف حدود تصرفه القائم على الاحترام والهدوء . الكبير يُحترم حد التبجيل. هناك هرم متدرج في السلطة المنزلية حسب الأعمار، أي أن السن والقدم في مهنة إدارة العائلة يمارسان الهيمنة . على راس السلطة هناك رئيس فخري، بالأحرى رئيسة فخرية، تركية الهوى والمنبع، البيبي . كانت لها سلطة مطلقة ، قلما تستعملها ، صارمة مع من هم تابعيها ، وفي راس القائمة الباجي الأم ، وكيف لا ، وهي تنافسها في طاعة ولي أمر البيت رب العائلة ، ثم العمة العزباء بنتها، على الرغم من مكانتها المميزة ، فهي صاحبة اليد الطولى في تجهيز ما لذ وطاب . الأحفاد في ذيل القائمة . كانت البيبي لا تتنازل عن مكتسبات العمر إلا في حالة واحدة، عند لعب الطاولي معي ، حين ذاك يجري ليّ بوز التسلط . لكن التسلط جزء من تربية آل عثمان ، وقد يستعمل فيه الترلك في تقويم اللسان ، إذا ما زلّ يوماً ، ونطق بما لا يُحمد سماعه . والترلك كما قال صاحب محيط المحيط ، الخفّ أو ما يُلبس في القدمين في البيت من جلد أو قماش . تستعمل البيبي هذا الترلك في فلقة الفم لإسكاته!
كانت الأوامر والنواهي الموضوعة لي كالآتي : عدم وضع الساق على الساق بحضور الكبير من الرؤساء . الوالدة والعمة غير محسوبة ، فمعهم أنا حر في التصرف . التلفزيون عند ظهوره في بغداد كان للأخبار ولعزيز علي وعفيفة اسكندر والعلم للجميع فقط ، ويغلق قبل العاشرة مساءً ، واختيار المناهج الأخرى من صلاحية رب البيت .
كان هناك حاجز صلب بيني وبين والدي ، فإذا ما قال لا في تصرف ما فهي لا النافية ، وإذا قال لا لطلب ما فهي لا تتبدل حتى لو تدخل الحاكم العصمنلي المطلق . أوامره لا تخالف ، مهما كانت الأعذار ، وطلباته مني لا أتلقاها منه مباشرة بل بوساطة أمي . كذلك هي طلباتي منه لا أتقدم بها مباشرة بل بوساطة أمي المسلحة دائما بعبقرية الإقناع ، كذلك الحال عند أي طلب خاص بي من خارج نطاق الروتين .
كان لوالدي سفرة صيفية إلى تركية ، تبدو كأنها واجب . فهمت من والدتي أنه يلتقي هناك بعشيقة قديمة . أثبتت ذلك بأدلة بصرية . والحال مجموع عدد سفرات الوالد إلى اسطنبول ، قبل وبعد الزواج ، سبعة عشرة مرة . عندما كنت صغيراً كثيراً ما أبكي عند سفره ، فأنا لا أحب أن يغيب عنا طويلا ، وعند عودته كنت أحصل على هداياه : كرة صنع اسطنبول ، بوت رياضة . الغريب أنني لم أكن أبكي عند غيابه لأيام طويلة في أوقات الفيضانات الكبرى في نيسان، وكنت أعلم أنه إما في خيمة مديرية الري في الراشدية أو الطارمية، وفي موقع لا يخلو من خطورة لإمكانية انكسار السداد الترابية .
مرة واحدة بكيت من سلوك والدي الرقيق معي ، إذ قبّلني عند نجاحي في الامتحان الوزاري ، لم أصدق ولم أتوقعها منه.
عندما أتأمل الآن القيم التي أحاطتني في صغري ، بصرامتها ومتانتها ، أدرك ، بالرغم من أنني لم أخترها ، أنها صنعت هذا الذي يتكلم الآن ، وذاك الذي صارع من أجل العيش الكريم والتمسك بقيم الكرامة والكفاية والنزاهة وحب الناس والخير . حب التعلم ، وتمجيد المعلم، عدم التعالي ، احترام الكبير ، الاستماع للرأي الآخر، الوثوق بالصديق والصداقة ، العطف على الطفل والضعيف، مساعدة المحتاج، نصرة المظلوم ، وبالطبع حب المرأة . هذا ما تعلمته من تربيتي البيتية ، ومن مدرستي ، والمعلمين ، والبيئة الاجتماعية الشاملة التي كانت تستدخل الحداثة وتستوعبها بهدوء .
نعم .. ليست كل التوصيات والنصائح مقبولة ، حتى لو جاءت من كبير أو معلم . إن الفروقات تظهر بالتجربة ، ما بين مفيد وضار ، وما بين عادي واستثنائي . والحال أن الحياة نفسها تتدخل في فرض إطارات جديدة لم يتوقعها الآباء ولا المعلمون . كان حبي لكرة القدم ليس له حدود، ووالدي اعتقد أن ذلك يلهيني عن وجباتي المدرسية، فمنعني من لعب الكرة إلا في نهاية الأسبوع، كما رفض طلب أستاذ الرياضة من تكليفي باللعب مع فريق المدرسة في تصفيات كرة القدم المدرسية ، مكتفيا بالموافقة على لعبي بكرة السلة . هذا المنع في كرة القدم سرى حتى على لعب الكرة في التنافس بين المحلات .
ما كان الوالد يعرف لذة ومتعة لعبة كرة القدم ، وكان منعه إياي لا يخلو من تعصب . كانت عصبة صبيان المحلة من أعضاء الفريق يعرفون مشكلتي ، من هنا كانوا يراقبون قدوم والدي نحو الساحة، ليسهلوا هربي من جهة خلفية . مرة قام الوالد بدورة تفتيشية ولم يجدني ، فعاد إلى البيت ليجدني في حالة هارب . سألني إن كنت ألعب في ساحة البستان ، أنكرت وكذبت بإصرار. كان الكذب محرّماً وممنوعاً منعاً باتا في بيتنا ، وكان كذبي في ذلك اليوم له علامات خارجية ، فسحبني من يدي إلى المرآة، وأشّر إلى بصمة خيط كرة على جبيني اختلطت مع العرق. أنت تكذب! اهتزت الجبال. الكاذب يستحق العقاب . جرّني من يدي ثانية إلى الحديقة قرب التنور، حيث حطب الطرفة ، وهناك نفّذ بي عقاب الفلقة بعود الطرفة المؤلم، وبدلاً من الضرب على القدمين راح يوجعني بالضرب على الإلية . كان المحتل العثماني قد ترك آثار قوية في العقاب وقليلاً في الثواب .
السينما خرجت بعض الشيء من رقابة والدي المبالغ بها . أظنها بدت له مساوية لفن الرسم الذي أحبه وقام بتجارب مثيرة فيه مع صديقه أبو زيد . كان موقع سينما الأعظمية وسطاً ما بين الدار والمدرسة والسوق ، كما أن يقظة الحياة الاجتماعية آنذاك ، وكان جلّ من يرتاد السينما من العوائل البغدادية ، ساعد على إذعان والدي الحارس الأمين على مقاييس التربية والأخلاق القويمة ، فوافق على اعتبار سينما الأعظمية منفذاً ثقافياً من منافذ
التحرر المسيطر عليه عائليا .