لو تم طرح سؤال على شخصين أو الف شخص من أعمار ومهن وثقافات متباينة حول مفردة “الحرية” وحدودها مفهوما أو مصطلحا أو دلالة لأختلفوا جميعا .. الشخصان والألف شخص. لماذا؟ لأن مفهوم الحرية غير محدد, أو مقنن بضوابط ومعايير ثابتة قاطعة, بل هو متغير بتغير الظروف والأزمان والعادات والتقاليد. فمايبدو مشاعا لدى جهة يمكن أن يكون قيدا لدى جهة أخرى. ومابين الطرفين “جماعة اللاحدود وجماعة القيود” ماصنع الحداد على مدى التاريخ من أقدم العصور الى اليوم وربما الى مايشاء الله. فالحرية مفردة ومفهوما وسياقا دوخت الفلاسفة والمفكرين والمتدينين واللادينين.
في القران الكريم لم ترد مفردة الحرية في أي من آيات الذكر الحكيم لكن ورد مابدا إنه محايث لها على صعيد الايمان وهي مفردة “الإكراه” المناقض للحرية طبقا لمعاييرنا المعاصرة. في سورة البقرة يقول الخالق سبحانه وتعالى “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”. وطبقا لجمهرة من المفسرين فإن عدم الإكراه في الدين يعني أن الله سبحانه وتعالى منح العبد حرية الإختيار بين “الرشد والغي”. أي أن الإنسان هنا أصبح مسؤولا عن حسن تعامله مع هذا المفهوم الواسع أو سوء تعامله من منطلق المسؤولية التي هي إحدى حدود الحرية في الدساتير والكتابات والمفاهيم الوضعية.
قد نجد أنفسنا الآن أمام سؤال إشكالي أخر وهو . هل الحرية نقيض العبودية؟ لماذا لم نجد مفهوما محددا للحرية في القران بإستثناء مابدا مايناقضها وهو الإكراه بينما ورد الكثير من الآيات بشأن العبودية التي إختلف الفقهاء في فهمها بين أن تكون عبادية لله سبحانه وتعالى أم عبودية للبشر وأحد معانيها الرق؟. كذلك مابدا إنه تجسيد لفهم إسلامي مبكر لحدود العلاقة بين حرية الفرد وبين محاولات إستعباده ماورد على لسان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بشأن مفهوم الحرية ونقيضها الإستعباد حيث قال “متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم إحرارا” مايدل بوضوح أن هناك رفضا إسلاميا مبكرا للعبودية بمعنى الإستعباد.
ما أريد قوله هنا وأنا أتابع الجدل الدائر بشأن ماسمي “مهرجان العراق الدولي” الذي أقيم في ساحة الإحتفالات الكبرى في ذكرى اليوم الوطني ومارافقه من جدل الحرية وحدودها هو أن الخلاف بشأن الحرية سيبقى قائما طالما إنه معطى بشريا يظل خاضعا لمعايير نسبية من حيث الإباحة والتحريم. فعلى صعيد هذا المهرجان الخاص لتكريم نخبة من الفنانيين والمبدعين بقطع النظر عن حدود العلاقة بين ماهو رسمي وخاص فإن مهرجانات التكريم ظاهرة طبيعية ومحمودة بلا شك, بل هي من سمات المجتمعات الحية. الخلاف كان بشأن حدود الحرية المسموح بها فيما رافقها من عرض أجساد لـ “البلوغرات” و”الفاشينستات” الأمر الذي إنسحب على كل المهرجان لجهة حدية الموقف منه بالإيجاب أو السلب. هنا أصبحنا أمام أزمة مفاهيم ومصطلحات وحدود ومسموح وغير مسموح الى الحد الذي إنقسم القوم الى فسطاطين .. فسطاط المتمدنين وفسطاط المتشددين في الرفض وكلاهما غير صحيح وليس هو أصل الموضوع وحتى طبيعة المهرجان. بمعنى إننا عدنا الى جوهر الإشكالية التي تتصل بأصل مفردة الحرية وحدودها هل هي متاحة أم مقيدة؟ هل هي بلاحدود أخلاقية أو قيمية أو دينية أم هي مسؤولية؟ كل هذه الأسئلة ضاعت في لجة النقاش بين المرفوض واللا مرفوض, بين المسموح والممنوع, بين العام الذي يقيد الخاص أم العكس. الخلاصة الطرفان خرجا منتصرين بينما الحرية وحدها .. هي التي هزمت في ساحة الاحتفالات.