اتابع منذ عام ٢٠٠٣ الى الان التصريحات المتعلقة بوجود فساد لدى الطبقة السياسية وبشكل مستمر ، تتبناه قوى سياسية ضد اخرى من خلال منصاتها الاعلامية. وتتزايد هذه التصريحات والاتهامات مع قرب كل ممارسة انتخابية او محاولة تمرير قانون او مشروع يمثل مصالح جهات سياسية تعترض عليه جهات اخرى، حتى في اطار ممارسة الدور الرقابي للبرلمان والهيئات الرقابية الاخرى فهي لاتخرج عن نطاق الابتزاز والتسقيط لمصالح جهوية خاصة، ولاتتعلق باداء المهام الدستورية والمحافظة على المال العام، اذ كل ماحصل ويحصل في العراق في هذا الجانب لايتعدى كونه انعكاسا للصراع السياسي والانتخابي واستخدام الاعلام والمناصب الرقابية التابعة لهذه الجهة او تلك، لضرب الخصوم والمنافسين،
فالمسألة برمتها ليست دفاعاً عن القانون أو مصالح الدولة، وليست محاربة فساد كما يشاع أو يفهم منها، وخوفاً على مصلحة البلاد والعباد، بل هي قضية تضارب مصالح سياسية وانتخابية واقتصادية، وفساد إعلامي، وابتزاز غير أخلاقي ولا مهني.
فعادة مالايتم استكمال عملية التسقيط او الابتزاز اذا ماتخادمت المصالح او انتفت الحاجة للتصعيد او تغيرت التحالفات او تأثرت بالتدخلات الخارجية لتنتهي وتعود لاحقا وحسب الامزجة الحزبية والمصالح الخاصة وتضررها.
شاهدنا امثلة حية عديدة على طول العشرين سنة الماضية في هذا المجال وكيف يصبح الفاسد والارهابي الذي اتهمته سابقا جهات سياسية وشهرت به حليفاً وشريكاً انتخابيا لها فيما بعد في مشهد مخزي يبرر تحت طائلة المصالحة والمصلحة الوطنية.
ان التركيز على جهة او شخصية سياسية واتهامها بالفساد او العمالة دون الاخرين ايضا مصداق لذلك ويعطِ انطباع صريح وفاضح للاغراض المقصودة من التصعيد في جانب وترك الجوانب الاخرى في تفسير واضح للانتقائية والبراغماتية والتسقيط والابتزاز السياسي والاعلامي.
على سبيل المثال تابعنا التصعيد الممنهج بشكل دوري لرئيس مجلس النواب واتهامه بالفساد والعمالة الخارجية، وتطرح تساؤلات في هذا الجانب هل التضخم المالي موجود لدى هذه الشخصية فقط ؟ان كانت هذه الاتهامات على الفرض صحيحة؟ فهل القادة والزعماء الاخرين من الشمال الى الجنوب فقراء معوزين لايمتلكون اموال ومقار ومصالح ونفوذ وارصدة وجماعات مسلحة ومنصات اعلامية ضخمة ممولة من المال العام؟ الحقيقة انهم يمتلكون المليارات الان ، وفي السابق كانوا حفاة مشردين؟
لماذا هذا التركيز المستمر على الشخصية دون الاخرين ؟ لماذا تركوا نور زهير ؟ ولماذا لا يتبعون ذات المسار مع تهريب النفط من المعابر الشمالية؟ لماذا لا يضربون منابع التهريب للعملة الى دول الجوار ؟ لماذا لايتابعون تواجد مقرات اسرائيلية وعلاقات معها من قبل زعامات وقيادات شريكة لهم في العملية السياسية والحكومية؟
لماذا لايتم التركيز على مثنى السامرائي ومتابعة قضايا طبع المناهج والفساد الذي حصل في وزارة التربية؟ ، ولماذا لم تتابع الدعاوى القضائية لاحمد الجبوري “ابو مازن” وهي معروفة ماهي اساساتها؟ لماذا اصبح مشعان الجبوري وعلي حاتم السلمان ورافع العيساوي اصدقاء وسابقا كانوا بعثيين وارهابيين ومتآمرين وفاسدين ومزورين؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ كثيرة الوقائع والحقائق القريبة مما يتم تصعيده الان ضد شخصية محددة وترك الاخرين.
اختزل الاجابة عن ذلك دون القصد الدفاع عن احد او اتهام الاخرين : يتمثل كل ذلك حاليا بتزايد شعبية الحلبوسي والتخوف من حزبه انتخابياً وسياسياً بان يصبح الرمز السياسي الممثل للقوى الاجتماعية السنية وخروجه من دائرة نفوذ القوى السياسية الشيعية، اذ سابقا لم نشهد وجود أحزاب سياسية ناضجة ومنظمة في المشهد السياسي السني، لأن ما كان قائم من كيانات هو في أفضل الأحوال تجمعات سياسية زبائنية تتشكل حول شخصيات معينة وتبقى قائمة حسب علاقتها مع القوى السياسية الاخرى.
لهذا فإن قوة أي حزب أو كتلة سياسية سنية يجب ان تستند في بقاءها ووجودها وفقاً لذلك، خاصة بعد عام 2014، اذ لم تعد هناك أي ملامح لهوية سياسية سنية، بعد أن تمكن الفاعل السياسي الشيعي من إنتاج طبقة سياسية سنية تعتمد بشكل كبير على دعمه لها، وبالتالي تستمد وجودها وديمومتها من علاقتها بهذا الفاعل لا مِن تمثيلها الحقيقي لمطالب المجتمعات السنية المحلية وتطلعاتها، خاصة ان منصب رئيس البرلمان من حصة المكون السني وهذا الموقع يتأثر أكثر من غيره من المواقع الرئاسية بالتحولات في ميزان القوى السياسي، وبالتالي يمكن الإطاحة به بسلاسة بخلاف موقعي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء؛ ولهذا تستغل باقي القوى السياسية نقطة الضعف تلك للضغط على من يرأسه وتستطيع من خلال ذلك اغراء او ارغام من يصل او يطمح اليه من خلال الاساليب المذكورة اعلاه.
أنّ صعود الحلبوسي غير هذه المعادلة وفرض هيمنته على السياسة السنية في العراق فمثلت تحدياً كبيراً للفاعلين السياسيين الشيعة الذين يسعون إلى تحجيمه وإضعافه، فهم يفضلون التعامل مع مشهد سياسي سني منقسم ومشرذم، ومنع ظهور قوة سياسية سنية موحدة، والاستفادة من هيمنة الطابع الزبائني على سلوك الفاعلين السياسيين السنة، لإعادة تشكيل المشهد السياسي السني بما ينسجم مع مصالح الطرف السياسي الشيعي.
هذا المشهد التصعيدي ضد الحلبوسي سيستمر من خلال التلويح بالإقالة من منصبه من دون أي خطوات حقيقية لتفعيلها من أجل مزيد من الضغط عليه، وإبقاءه في وضع قلق إلى حين انتخابات مجالس المحافظات المقرر إجراؤها في ١٨-١٢-٢٠٢٣، وفي المقابل يتم دعم القوى السنية المناوئة له في الانتخابات المقبلة، وانتظار نتائج تلك الانتخابات لتكون هي الفيصل في استمراره في منصبه من عدمه وفقاً لما سيحصل عليه “حزب تقدم” والقوى السنية المناوئة له، والتركيز سيكون على الانبار ، وماحدث في اثارة قضايا فساد اغلبها تخص الانبار، لان خسارة الحلبوسي فيها ستكون ضربة قاضية لوضعه ورمزيته السياسية.
هذا هو اساس الانتقائية في استخدام ورقة التسقيط السياسي والابتزاز الاعلامي بشكل عام في عراق مابعد ٢٠٠٣، بعيداً عن مصداقية مايطرح من اتهامات وقضايا وبعيدا عن شخصنة هذا الواقع من عدمه.