معروف أن العديد من الإسلاميين يرون في قيام جمهورية تركيا المدنية الديمقراطية العلمانية خروج على الخلافة الإسلامية وانتكاسة لطموحات وحدة المسلمين في دولة امبراطورية كبرى.
لكن طبيعة الدور الذي أداه مؤسس الجمهورية في القتال لتحرير الأراضي التركية بقيادة القوات المسلحة غير النظامية التي اختارت الولاء للوطن وليس للسلطة القائمة في حينها، السلطان، الذي كان من الضعف حد الرضوخ للمحتلين الغربيين، حفر في وجدان الشعب التركي تبجيلاً استثنائياً لقائد التحرير والقوات المسلحة.
ومن تابع احتفالات الذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية، يلاحظ العواطف الدافئة التي يحيط بها عموم الترك مؤسس النظام الجمهوري، ويلوح العلم الأحمر بهلاله ونجمته رمزاً لإرادة شعب اختار مواكبة العصر لبناء مستقبل أفضل.
كل هذا يجري في ظل سلطة منتخبة لحزب إسلامي يتزعمه قائد سياسي لا تعوزه الجاذبية، برغم تدني سعر الليرة وارتفاع تكاليف المعيشة بنسبة ملحوظة. لكن الجميع، الإسلاميون والعلمانيون احتفلوا بحماس بالذكرى المئوية لقيام دولة تركيا الحديثة. مع كامل التبجيل لتراث الإمبراطورية وسلاطينها الأقوياء الفاتحين، وما تركوه من معالم حضارية.
والشيء المميز في احتفالات المئوية التركية رشاقة النشاطات ورقي ذوقها وتجنب المظاهر الباذخة، بمشاركة مذهلة للنساء والرجال والأطفال في إحياء المناسبة، حيث تصدح الالحان التراثية بجانب أحدثها، وفعاليات فنية لفنانين مبدعين في الرسم والنحت المصحوب بأنغام رائعة تبهر الحضور، ضمنهم السياح، الذين ينعمون ببنى تحتية وخدمية متقدمة.
ما شهدته في هذه الاحتفالية التي تبعها الأسبوع الثقافي والسياحي التركي السنوي، جسدت قدرة المواطن على الابداع بدون النفقات الباهظة التي تعودنا عليها في أية احتفالية في وطني العراق، وكان أخرها احتفالية ذكرى دخول العراق عصبة الأمم.
وإذ يعقد المؤتمر السنوي لسفراء العراق، فأن المؤسف هو أننا نلحظ ظاهرة مؤلمة في انتهاك بعض الدبلوماسيين لحرمة مهمتهم وسمعة العراق، وانجرارهم إلى منزلق مغريات مادية و”فسلجية” مؤسفة، حد أن هيئة النزاهة كانت حاضرة، ليس لتعزيز حصانة ممثلي الوطن في الخارج، بل لتأشير انتهاكات صارخة، ضمنها سفارتنا في تركيا، التي نتوخى فيها حراك مثابر لدعم طموح العراق في استرجاع بعض من حصته المائية التي قضمتها السدود التركية والجفاف الذي يضرب المنطقة بشكل خاص، إلى جانب نقل إيجابيات تجارب الشعوب.
إن مشاركة رئيس الوزراء في المؤتمر وتأكيده ضرورة ترسيخ علاقة العراق بدول العالم انطلاقاً من ضمان مصالح الشعب العراقي مع الجوار وبقية العالم، هو مبدأ عام يفترض أن يكون ملاك وزارة الخارجية قد تشربه، إن كان ملاكاً دبلوماسياً مؤهلاً واعياً لطبيعة هذه المصالح ويمتلك الموهبة واللمسة المناسبة للسعي نحوها، وليس لمسة السعي لإرضاء شهوة المال والجنس مع الأسف الشديد، لمن هم
ابعد ما يكونون عن طبيعة العمل الدبلوماسي، لكن اعتبارات المحسوبية الحزبية وغيرها قد فرضتهم.
ليس القصد هنا هو تمجيد الجارة تركيا وليس المقصد هو الترويج لمقام الزعيم التركي مصطفى كمال اتاتورك، لكن الوعي بما حولنا، وكيف تتعامل الشعوب وسلطاتها الشرعية مع تراثها باحترام وتبجيل، ليس في تركيا وحدها، بل في اغلب دول المنطقة المتحضرة، تستدعي منا وقفة لمراجعة ممارستنا…فنحن جمهورية نحتفل بذكرى نظام ملكي، دون أن يعني هذا دعوة لتجاهل تراث فيصل الأول وصحبه…لكن تجاهل المتغيرات الكبيرة المتحققة في 14 تموز هو ظلم كبير.
وليس هنا المقصود التباهي بمذبحة قصر الرحاب و”النهاية” المفجعة للأسرة الهاشمية في العراق، ففي تركيا وإيران ومصر لم يسفك دم رأس النظام وأسرته، وحتى شاه إيران ومن بعده رئيس وزرائه سمح لهما بالمغادرة، ونفى أتاتورك كل اسرة السلطنة بدون إراقة دم أحد…وهو اجراء يعبر عن ثقة الدولة ونظامها الجيد بقوته.
مع الأسف نحن كنا وما زلنا نخوض المتغيرات بحالة من العصبية والدم والبذخ والشتائم، دون أن يعني هذا تجاهل محاسبة المجرمين قتلة مواطنينا وسرقة المال العام، وهي الظاهرة التي باتت مستشرية حد نخر قيمة الدينار العراقي ولقمة عيش ذوي الدخل المحدود من غالبية العراقيين.
ترى متى نستطيع احياء مناسباتنا وأداء مهامنا بلا بذخ، وندير صراعاتنا بلا تسقيط، ونؤدي مهامنا بلا منزلق اغراءات الاستحواذ على المال العام وتعدد الزوجات المتحولات إلى عارضات أزياء والتحرش بالأخريات؟!

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *