.. ( علمني الفراق ازعل واحن واشتاق .. لو ابقى طول العمر .. ما القى مثل عراقنا عراق ) ..
هكذا سمعت ، صوت الفنان سعدون جابر يشدو حافر الوجدان جاهشا الدموع من خلال مسجل قديم يحمله رجل بدى كانه اقدم من جهازه واكثر تعب .. باغنية تراثية ما زالت تنبض عراقا مكتنز الاعراق ..
هنا في ساحة الميدان وبمعزل عما حدث ويحدث في المجتمع من تغيرات هجينة، ما زالت الناس تتزاحم في مشهد تتكدس فيه والانتيكات والتراث والذكريات . ثم مررنا بالمتنبي وقاعة شناشيل وشربت الحاج زبالة وكبة السراي والمتحف البغدادي الذي ما زال ينوء بمواجع خالد السامرائي ناحبا بمقامات الاستغاثة بشدوا اصيل ، ثم مشينا على ضفاف دجلة نستطلع وجوم اجندات شحة المياه التي كذبتها زخات المطر ..
توجهت بعدها الى موعد في الكرادة فمررت بين ساحتي الفردوس وكهرمانة ،حيث هناك رمزية كبيرة للشوارع المهمة كانها هوية وطن . مما جعلها تحت سيطرة الدولة ومعاينتها المباشرة للحفاظ على تلك الرمزية من العابثين .
بعد جولة عذبة برغم مرارة الأجواء ، شعرت بدوار راس ، اضطرني الجلوس على مقعد وجدته بمنتصف الرصيف قرب ( بسطية شاي ) ، فطلبت قدحا محتسيا رشفات دفء عراقي عصي النسيان ، برنة ملعقة بغدادية شهيرة ، ثم تساءلت بنفسي . كيف نصبت هذه البسطية هنا وسط شارع عام رئيسي نابض بقلب العاصمة ، كيف سمح رجال الأمانة ان يحدث مثل هذا الخرق الحضاري.
بهذه الاثناء سلم علينا رجل يرتدي دشداشة ويحمل عصا يهش بها على بعض اغنام تصحبه تركها تدوس عشب وتاكل زهور الجزرة الوسطية وتخدش ضمير الاحياء وتنهش قلب المواطنة دون أي اكتراث ..
فوجهت سؤالي لصاحب الاغنام مستفسرا .. كيف وصلت اغنامك هنا ؟ هذا المكان ليس للرعي ، فرد بقسوة : ( انت من ، وما عليك ، ومن يمنعني ، اكبر راس اكسره وادوسه ) . فتعجبت وبقية الحضور من الجهل والاستهتار بالممتلكات العامة.
بعد ذاك قلت له ، ساحكي لك قصة ، فرد باستهزاء : ( هات الدرة الي عندك ) ! ، فقلت : ( كنت مرافقا صحفيا مع وفد رياضي في سنوات خلت بتركيا التي كانت تعيش مؤسساتها عطلة رسمية أغلقت فيها الملاعب ، مما اضطر لاعبوا الوفد الهرولة باحدى الحدائق العامة حفاظا على اللياقة البدنية ، فلم تمر الا دقائق معدودة ، واذا برجال كبار السن جدا كانوا يتدفؤون تحت اشعة شمس تلك الصبيحة ، هبوا علينا واخذوا يصيحون ويزبدون ويربدون … وربما يسبون بلغتهم ، ولما استفهمنا منهم سبب ذلك الهيجان ، قالوا : ( هذه الحديقة عامة وجدت لراحة المواطنين ، وتعد واجهة حضارية لا يجوز ازعاج الناس فيها ، كما ان احذيتكم تضر العشب وتشوه المنظر وتتلف الحدائق ، ولن نسمح لكم العبث والتخريب المتعمد للممتلكات العامة ) . بعد ان أكملت كلماتي التي نبشت قلبي حزنا وبكاء على امة ، تمتلك الكثير من مقومات النور لكنها تفضل العيش بالظلام ، التفت الي صاحب الاغنام ، قائلا : ( وين الرباط ، ما فهمت ) .. فقلت له ( سلاما ) .. فقال : ( اسكت احسن لك ، هذا بلدنا واني حر فيه ، والي يزعجني احرق امه وابوه ) .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *