رحم الله ابي حينما كان يقص علينا قصصاً عاشها ممزوجة بالخبرة والمواقف وبالتحديات وهو يبث فينا روح الرجولة منذ نعومة اظفارنا اذا ما جاز لي التعبير ، فقد احتفظ بمواقف عديدة ومشاهدات اختزلتها ذاكرته التي ما ان نستفزها ترشح حكايات وحكماً . كان فلاحاً بسيطاً عاش مرارة الفقد والعوز في سن مبكرة لكنه امتلك نظاماً خاصاً ،اذ كان حر التصرف في ارض اجداده فلم يكن يخضع لتوجهات اقطاعي ، وادار ارضه بنظام اعتاده يبدأ في الصباح وينتهي مع المساء وقد وصف لنا نظام عمله وكيف كان يقسم الارض ويصنفها ،وكيف كان يبني اكواخ القصب ويحمي ارضه من الحيوانات والآفات الزراعية واين يضع ادواته البسيطة التي أدار بها ارضه، ثم استعرض لنا حياة منزله وتنظيمه لأغراضه البسيطة ودشاديشه وكيف كان ينظم وقت العمل مع وقت اعداد الطعام والتنظيف؛كونه عانى اليتم مبكراً،ثم قرر ترك قريته؛ بسبب الظروف وتوجه الى مركز المدينة ليعيش اجواء جديدة الحت عليه ان يحافظ على نظام حياته وهذه المرة اكتسب خبرة من الضباط البريطانيين، فحينما عمل في سكك الحديد كان البريطانيون يشرفون مباشرةً على ادارتها ورأى الضبط منذ الصباح الباكر بعد حلق لحِيهم وكي ملابسهم ثم استعراض قواتهم وتنظيمها وتوجيهها ،يبدأون تنظيم المكاتب والسجلات من دون هدر للوقت أو اضاعة له مهما كان عددهم فالكل يعمل ولا يريد مهما حصل اضاعة وقت فقد سمع اغلبهم يرددون ( انهم في خدمة مهماتهم ودولتهم العظمى)، فقط ساعات الغداء كانوا يستريحون ليعودوا الى اعمالهم، هكذا كان يصفهم ويقول (بوية هيج تفهم شلون حكمونه.. النظام بويه)، ثم انتقل لعمل اخر ليجد امامه مديراً مسيحياً عمل على وفق النظام اليومي والاداري نفسه من دون هدر للوقت، كان يفكر ببناء وطن يرتقي الى مصاف الدول المتقدمة وقد علم ابي القراءة والكتابة واجبره وهو بسن الشباب ان يدخل التعليم الابتدائي المسائي وبالفعل تعلم الكثير وازداد حبه للنظام وراح يتحول الى انسان مدني يجيد لبس البذلة ويدخن السجارة مع فلتر خشبي ويرتدي ساعات ذات قيمة ويجيد تلميع الحذاء ووضع العطر واتقن استعمال بعض الكلمات الانكليزية وكلمات اهل المدينة ذات البعد الثقافي المدني ، كونه كان منظماً يعشق الترتيب والدقة في كل شيء من دون ان يفقد حريته، وما ان تغيرت طبيعة النظام بعد 1958 حتى وجد نفسه في خضم مفاهيم جديدة اقرب الى الاشتراكية، اذ اخذ يركب( البايسكل) الذي منحته اياه الدائرة ويخضع لوقت عمل يبدأ بصفارة وينتهي بها وعمل جماعي منظم واصبح وزملاؤه يرتدون اللون الازرق وكذلك الرصاصي في شكل لعمال يعملون بنظام في مؤسسة الموانئ العراقية ،ثم انتقل ليعمل مراقباً للعمال في احد المستشفيات وحينها كنت قد بدأت ارافقه ليعلمني النظام، وفي احدى الايام شاهدت طبيباً انيقاً للغاية يتكلم بلغة عالية الدقة والثقافة وهو يصف لمرضاه ما الم بهم ، سألت ابي عنه قال هذا الدكتور خريج فرنسا هو وزوجته الطبيبة ،وهو يحب ان يظهر انيقاً منظماً في اثناء عمله محترم لوقته دقيقاً بوصفاته مهذباً بسلوكه كان يصف لي ذلك وكأنه يصف نفسه وبدأت عيناي تتبع تفاصيل بذلته الزرقاء ذات الياقتين العريضتين وكيف كواها ليبرز تقاسيمها مع شعر اسود كث طويل اذ كنا بعقد السبعينيات، وبدأ محيطه ومكتبه مرتباً بدقة وكلامه واضح وجلي ،والان ابحث عن صاحب البذلة الزرقاء في محيطي وعملي فلم اجده ،فكيف سنبني وطناً اختفى منه الانيقون المهذبون محبو النظام؟!