حينما أخترت «الأخ الأكبر» عنواناً لبرنامجي الذي تعرضه الشرقية الآن فليس ذلك فقط لولعي برواية الكاتب الأنكليزي جورج أورويل، بل لكي أوصل رسالة مفادها أن كثرة المعايير والضوابط والعادات والتقاليد التي يفرضها مجتمع ما على أفراده قد تقتل الأبداع والتميز لأنها تقمع حرياتهم وتضحي بالفرد على مذبح الجماعة. وبعد أن عشنا لعقود طويلة فيما مضى تحت سلطة «الأخ الأكبر» كنظام سياسي، وكنا نخشى سطوته حتى داخل غرف منامنا، أستبشرنا خيراً بما قد يكون المزية (النادرة) لنظام مابعد أحتلال 2003 حين تمت الأطاحة بسلطات «الأخ السياسي الأكبر». وتصورت مع الكثيرين من أبناء شعبي أن الرؤوس تساوت أخيراً وصار بأمكان الجميع التعبير عن آرائهم بحرية،وقطف ثمار»الديموقراطية» وعدم الخشية من القمعية. والحق أني من الذين مارسوا حق النقد والكتابة بحرية تامة لحين ما بدأت ظاهرة الأغتيالات السياسية للناشطين في العراق بعد مظاهرات 2011 والتي تعمقت بشدة بعد أنتفاضة 2019 وقتل وجرح وتشريد وقمع آلاف الناشطين دون أن تتم محاسبة أحد،وكأن دماءهم ماء وأنسكب أو حادث بلا سبب!! ثم تُوّجّت المذبحة،بأغتيال الصديق هشام الهاشمي رحمه الله الذي لا يعرف أحد للآن-رسمياً على الأقل-من أغتاله وماذا حصل للمشتبه الوحيد الذي قُبض عليه والذي ربما يتم تكريمه خدمةً (للنضال المسلح)!
مقصلة الحرية
أرسل لي أحد الأصدقاء الحالمين معي بالحرية مقالاً صباح اليوم يخبرني فيه بقراره بالتوقف عن الكتابة والتصريحات والخروج على الفضائيات بعد ما يمكن تسميته ب» مقصلة الحرية» التي بدأت تلوح أرهاصاتها مؤخراَ نتيجة سلسلة قرارات صدرت من عدد من مؤسسات السلطة التنفيذية أيتداءً من رئيس الجمهورية وليس أنتهاءً بهيأة الأعلام والأتصالات تم بموجبها أغلاق قنوات مثل (تلك الأيام)،ومواقع صحفية،ومنع محللين سياسيين من الظهور الأعلامي،فضلاً عن هجمة شديدة على الحريات الأجتماعية في البصرة بحجة العفة والطهارة وأنتهاك المقدس وممارسة المدنس!! ولأني ممن فكروا كثيراً بعواقب عتزال الرأي العام مثل صديقي،فقد نصحته بعدم ترك الساحة ل»الأخ الأكبر» وزبانيته لأن هذا ما يريدوه فعلاً. أنهم يريدون منا أحدى الراحتين: اليأس أو الموت.
أعلم أن هناك جدل واسع ليس في العراق فحسب،بل في كل مكان بين ممارسة الحرية وبين الأمن الأستقرار(الشخصي) أذ يعتقد البعض أن الأستقرار أهم من الحرية وهو رأي محترم بلا شك،لكني لست من أنصاره.فأنا ممن يؤمنون بالقول المنسوب لأحد فلاسفة عصر التنوير في فرنسا والقائل بأن «آمن مكان في الأرض هو السجن». العراقيون تمتعوا بالأستقرار(اقصد الأمني في مناطقهم) طيلة أكثر من ثلاثة عقود فماذا كانت النتيجة؟ الغزّيّون تمتعوا بالأستقرار الأمني في سحنهم الكبير لسنوات فماذا كانت النتيجة؟ العبيد تمتعوا على مدى التاريخ بالأمن والأكل والشرب ما داموا مطيعين لأسيادهم. لا تسيئوا الظن كما سيفعل بعض من سينتقدوني على هذا المقال،فأنا لا أدعو للفوضى،وأكره الحرية المنفلتة تماماً مثلما أكره «الأخ الأكبر» أو ما يحلو للأسلامويين تسميته ب»المستبد العادل».
الحرية يجب أن لا تنفلت،لكنها يجب أن لا تنكبت. أن وضع ضوابط وقوانين للحرية يجب أن تحكمه أرادة الجماعة وليس أرادة»الأخ الأكبر» أو «تيجان الرأس» أو أي من «المقامات» العالية و»الفخامات» البالية. أن أساس الحرية هي المساواة فلا «أكبر» يتحكم ،ولا «أصغر» يتقزم.والمعيار الحاكم يجب أن يكون الدستور الذي رغم كل أنتقاداتي له لكني أحترم جداً ما أورده في باب «الحريات». الحرية غير المقننة «منفلتة»، لكنها يجب أن تُحكم بالقانون وتضبط بأرادة المجتمع، وليس آراء السلطة التنفيذية ومؤسساتها .أذ لا يجوز للخصم أن يكون القاضي مثلما لا يجوز للقاضي أن يرتدي قبعة التنفيذي أو يكون خصماً مع المتخاصمين .فصل السلطات واحترام الدستور وتطبيق القانون من قبل القضاء(وليس من قبل الأهواء)هي التي يجب أن تحكم عملية منع الحرية من الأنفلات. وحينما أقول أن المساواة هي شرط الحرية فيجب تطبيق ذات المعايير على الأخوَين»الأكبر والأصغر» بذات الوقت،وعلى «التيجان والرعيان» بذات المسطرة،وأن تحجب مواقع وقنوات «الموالاة» بذات المعيار الذي تحجب فيه وتغلق مواقع وقنوات «المعارضة». وأن يمنع الطائفيون من الظهور الأعلامي سواءً كانوا من شيعة السلطة أو سنتها. نريد أخاً أكبر بعقله لا بسلطته. ونريد أستقراراً ورخاءً وتقدماً يليق بالأحرار،ويترفع عن الصغار،ولا ينظر لما نقول ككفارأو يخيفنا بالنار.