رأينا على الشاشات نائبة تعترف بأنها نالت حصة من ( كيكة ) العقود و ( الكومشنات )، ورأينا نائباً يصرّح بأن إحدى الكتل السياسية هرّبت إلى خارج العراق مئات الملايين من الدولارات، ونائباً يقر بأنه ابتز بعض الفاسدين للإنتفاع منهم مقابل إغلاق ملفات فسادهم !.
غير هذا كثير، وهو ما دفع ويدفع المواطنين إلى التساؤل عن موقف سلطات التحقيق من هذه التصريحات .
التساؤل مشروع، فليس معقولاً أن تمر هذه التصريحات دون اهتمام ورد فعل ، ومع هذا التساؤل علينا أن نحدد ما إذا كان التحرك تجاه من تتوجه إليهم التصريحات بالإتهام واجباً ، ونحدد أيضاً السلطة المسؤولة عن مباشرة الإجراءات القانونية اللازمة .
إبتداءً نقول إن هذه التصريحات تضمّنت اعترافات أحياناً وبلاغات أحياناً أخرى ، والإعتراف هو ” إقرار المتهم على نفسه بارتكاب جريمة ” ، أما البلاغ ( ويسمى الإخبار أيضاً ) فهو ” إخبار الجهات المختصة – الشرطة أو الإدعاء العام أو قاضي التحقيق- بوقوع جريمة ” ، وكلا الفعلين -الإعتراف والبلاغ- يكفيان لتحريك الدعوى الجزائية بموجب المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات الجزائية .
لكن من هي الجهة المسؤولة عن تحريك الدعوى ؟.
هذه الجهة هي جهازالإدعاء العام الذي أناطت به المادة (5) من قانونه ذي الرقم (49) لسنة 2017 مهمة إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد المالي والإداري ومتابعتها استناداً إلى قانون أصول المحاكمات الجزائية.
لماذا إذاً لا يمارس الإدعاء العام هذه المهمة تجاه التصريحات التي تنقلها وسائل الإعلام ؟.
يبرر أحد الآراء هذا السكوت بحجة مفادها أن التصريحات عبر وسائل الإعلام لا تصلح أن تكون بلاغات أو شكاوى بالمفهوم القانوني ، لكن هل يصمد هذا الرأي أمام المناقشة الموضوعية في ضوء نصوص القانون ؟.
حين أوكل القانون إلى الإدعاء العام مهمة إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد فإنه افترض اتصال علم الإدعاء العام بوقوع الجريمة كي يباشر هذه المهمة ، وهذا العلم يمكن أن يتحقق بإحدى وسيلتين :
الأولى : البلاغ ( الإخبار ) ، بأن يبادر شخص إلى إحاطة الإدعاء العام أو الشرطة أو قاضي التحقيق علماً – شفاهاً أو تحريراً – بوقوع جريمة لا يتوقف تحريك الدعوى فيها على شكوى من المجني عليه .
الثانية : الشكوى ، بأن يتقدم المجني عليه أو من يمثله بطلب تحريك الدعوى الجزائية بحق من ارتكبها ضده .
وفي الحالتين لم ينص القانون على وسيلة محددة لحصول علم الإدعاء بوقوع الجريمة أو احتمال وقوعها كي يبدأ التحقيق وجمع الأدلة بشأنها ، بل ترك الباب مفتوحاً أمام الوسائل التي يتم بواسطتها حصول هذا العلم ، ولهذا فإن البلاغ أو الشكوى عبر وسائل الإعلام ليس محل استثناء في هذا المجال ، ومن ثم لا نرى وجاهة القول بعدم صلاحية وسائل الإعلام لإحاطة الإدعاء العام علماً بوقوع جريمة ما ووضعه أمام مسؤوليته القانونية عن تحريك الدعوى الجزائية باعتباره ممثلاً للهيئة الإجتماعية .
ربما يقال إن ما يعرض في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة قد يخضع للتحريف أو الإصطناع ( الفبركة ) ، غير أن هذه الحجة لا تصمد هي الأخرى أمام التقدم العلمي وقدرته على الفحص والجزم بوجود تحريف أو اصطناع أو عدمهما ،حيث يمكن لسلطة التحقيق الإستعانة بذوي العلم والخبرة الفنية لهذا الغرض بعد المباشرة بإجراء التحقيق وصولاً إلى الحقيقة .
إن المتلقي يشعر بردة فعل شديدة حين يشاهد من يعترف – وحتى يتباهى أحياناً – بارتكاب أفعال تقع تحت طائلة التجريم ، وتشتد ردة فعله حين يجد سكوتاً تجاهه ، وهاهي وسائل التواصل الإجتماعي تتداول صوراً وأحاديث تصلح أن تكون أدلة على جرائم تمس المصلحة الإجتماعية العليا من سرقة ، ورشوة ، واختلاس ، وتهريب ، وتحريض على الفتنة ، واعتداء على حياة الناس وأموالهم، وإخلال بواجبات الوظيفة العامة وغيرها من الجرائم المهمة دون أن تواجه هذه الجرائم بالملاحقة والردع ، فمن هي الجهة التي يمكن أن تقوم بمهمة نبيلة هي وضع المتهمين بهذه الجرائم في قبضة العدالة ؟.
إنها الإدعاء العام الرقيب على تطبيق القانون ، الذي ننتظر منه المبادرة ونتوسم فيه القدرة على تفعيل القوانين الجزائية التي شرّعت للإنتصاف للدولة وللمجتمع وللأفراد ممن يخرج على أحكام القانون و القيم الأخلاقية.
{ قاضٍ متقاعد