في العصر البابلي كانت هناك مواكب تستعرضُ فرسانها وخيولها وراياتها أمام الناس قبل ذهابها إلى ساحات الوغى؛ وكان يُسمَّى الطريق التي يتم فيه الاستعراض بشارع الموكب، لذا ليس غريباً أنْ نرى ظاهرة المواكب تتجدَّد خلال أيام عاشوراء في مدينة كربلاء وباقي المدن العراقية وحتى أصقاع العالم، والحديث عن المواكب الحُسينية ذو شجون وله وقع خاص في روح كل عراقي يؤمن بقضية الإمام الحسين «ع» واستشهاده مع صحبه في العاشر من شهر محرَّم الحرام ، إذْ يمكن أنْ ترى التحضيرات من قبل أهالي كربلاء على قدم وساق لاستقبال هذه الفجيعة الهاشمية؛ وحال استبدال الراية الحمراء التي تعني الثأر لدم الحسين الطاهر بالراية السوداء من على قُبتي الذهب الحُسينيَّة والعباسيَّة حتى تجد الناس قد استبدلتْ ملابسها الملونة بالثياب السُود وأطلقتْ لُحاها وتغيرَّت ملامح وجوههم إلى الحزن الشديد والغضب العارم، وترى في كل طرف من أطراف المدينة قد شُيدَّت «التَكْيات» والمؤلفة من رفوف مكسوَّة بقماش أخضر أو أسَوْد تُوضع عليها مزهريات من السيراميك والكريستال المتوًّجة بالورود الملوًّنة والشموع وتضيئها مصابيح حمراء دلالة إلى الدماء البريئة التي سفكت على أرض كربلاء، كما تُعلَّق على جدرانها المغطاة بقماش أسود السيوف والدروع ولامَة الحرب، وهناك بعض «التكيات» تضيئها المصابيح الخضر إشارة إلى نسب العترة الهاشمية المباركة وأهل البيت عليهم السلام. بعد غروب الشمس وإكمال الصلاة تبدأ المواكب بالزحف نحو المرقدين الشريفين تتقدمها الهوادج المزدانة بالمصابيح الملوَّنة وتتبعها حشود من الناس على شكل حلقات وهم يهتفون بقصائد قصار «ردَّات» تنبع فكرتها من التضحية والشجاعة والإباء للإمام الحسين «ع»، بينما في مدينة النجف الأشرف تتقدَّم المواكب مشاعل النار، وهذه الهوادج ثقيلة جداً لأنَّها مصنوعة من الحديد الصلب ويكون شكلها على شكل قارب إشارة إلى سفينة النجاة التي ورد ذكرها في قول للرسول الكريم: «إنَّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة و إمام خير و يُمن و عز و فخر و بحر علم و ذخر»، ويحمل الهودج رجل واحد يتمتع بقوة نادرة وقلب لا يلين وشكيمة لا تهتز ، وحين يصل إلى باب قبلة مرقد الحسين «ع» يدور بالهودج على نفسه عشر دورات وربما أكثر بمشهد مثير تخشع لروعته القلوب وتتعالى الصلوات من قبل الناس وهم يراقبون بدهشة الهودج وكأنه يطير في السماء. أكبر الهوادج وأثقلها ذلك الذي يتقدَّم موكب عزاء العباسية والذي تكون بداية حشوده الغفيرة عند باب القبلة لمرقد العباس»ع» ونهايته عند مبنى البلدية؛ ولموكب العباسية معزًّة عميقة وأثر كبير في قلوب الناس وخاصة إبَّانَ بطش وقمع النظام السابق للشعائر الدينية، فهو الموكب الوحيد الذي يهتف بشعارات صريحة وشجاعة، وأنَّ معظم الذين ينخرطون بهذا الموكب يضعونَ اليشاميغ الحمر على رؤوسهم أو حول أعناقهم إشارة إلى انتمائهم للحزب الشيوعي، وكانت الشعارات التي يردّدونها مصدر قلق للقوات الأمنية والحكومة ومازالت؛ بينما الناس كانت تترقب ظهور موكب العباسية على أحرّ من الجمر، أمَّا الذي كان يكتب شعارات هذا الموكب؛ فقد أعدمهُ الطاغية في الثمانينات؛ وهو شاعر من عائلة كادحة، متعدد المواهب ويمتلك ثقافة موسوعية ويُدعى عبد الزهرة الشرطي، أجبرهُ عوزه المادي إلى ترك الدراسة والالتحاق بالشرطة ومن هنا جاء لقبه بالشرطي، ومن أصدقائه المقربين الفنان المعروف سلمان عبد رسام الكاريكاتير الذي رحلنا إلى سماوات رحيمة قبل شهور والذي كان يحتفظ بالكثير من الذكريات الطريفة والمؤلمة عن شاعر عزاء العباسية؛ منها رؤية الناس لعبد الزهرة يحمل بطانية ويسير مع موكب العباسية؛ ولما سأله أحدهم عن سبب حمله البطانية؛ أجابهم أنَّ القصائد «الردَّات» التي كتبتها قوية جداً وأتوقع اعتقالي من قبل رجال الأمن بأية لحظة ولذا جئتُ بالبطانية التي أنام عليها بالسجن. ومن قصائده التي يذكرها الناس « كِثرتْ الغربان كِثرتْ صُبَحْ مذبوح الحمام « وأخرى يقول فيها: «شعبي كالجمل أكله الصبح عاكول، لكن على الظهر كلْ ذهب محمول، شنهو الذهب مفعوله لو حاير بعاكوله، يحسين الشعب باسمك نضالاته». وإذا كان موكب عزاء العباسية يشير بقوة إلى الشيوعيين فأنَّ موكب باب الخان كان يمثل الأحزاب الدينية بينما موكب باب السلالمة استحوذ عليه بالقوة رفاق الزيتوني وكانت قصائده تمتدح النظام السابق؛ وكان كل موكب يتباهى بخطبائه وشعرائه، لكن البارزين كان المرحوم الرادود حمزة الصغير والخطيب المرحوم عبد الزهرة الكعبي والخطيب المرحوم شيخ هادي الذي كان ولده البكر صالح البصير منتميا إلى الحزب الشيوعي بمفارقة نادرة سببت حرجاً كبيراً لوالده الشيخ هادي، وفي التسعينيات كنت أصادف في طريقي صالح البصير أثناء نزولي إلى المدينة وأكون دليله حتى يصل إلى مبتغاه وكان خلال الطريق يحدثني بعقل راجح عن أفكاره الاشتراكية التي مازال مؤمنا بها، أما الشعراء الذين برزوا وحققوا شهرة واسعة بين المواكب الحسينية فكان المرحوم كاظم منذور الكربلائي يقف في مقدمتهم ثم مهدي الأموي وكاظم الخفاجي والد الشاعر رضا الخفاجي ثم التحق بهم نهاية السبعينيات الشاعر محمد زمان الذي كان يكتب قصائده بالفصحى لموكب باب الطاق، وفي ليلة عاشوراء تصل ذكرى فجيعة الطف إلى ذروتها بعد مشاهد من التشابيه تعرض على الناس وتصبح الوجوه قانطة وتسمع نفخ البوق وقرع الطاس وخفق الرايات الحمر أمام المواكب عند الفجر إيذانا ببدء التطبير وهي بدعة جاءت بها المواكب الآذرية إلى كربلاء مطلع القرن الماضي وقد حرمّها معظم مراجع الدين للمذهب الشيعي؛ وأقول لهؤلاء الذين يضربون رؤوسهم بالسيوف، إذا كنتم تعشقون الإمام الحسين «ع» حقاً، ضعوا على مرقده المقدس الورد واتركوا ضرب الهامات بالسيوف، وعند صبيحة العاشر يستمع الناس إلى المقتل الذي يقرأه الخطيب عبد الزهرة الكعبي بصوته الشجي والحنون وبعد صلاة الظهر يبدأ عزاء ركضة طويريج الشهير حيث يشترك فيه الملايين وهم يركضون هاتفينَ غضباً وحزناً لإطفاء النار التي اشتعلت بخيام حرم الحسين «ع»؛ بعدها يهيمنُ صمتٌ مهيبٌ حتى تغرب الشمس ويلفُّ مدينة كربلاء الظلام؛ لتظهر مواكب السادة يتقدَّمهم حشد من الأطفال الذين يشدون قطعة قماش خضراء على رؤوسهم ويحملون الشموع ويُسمَّى هذا الطقس «شامي غريبون» ويعني عشاء الغرباء؛ إشارة إلى السبايا الذين دخلوا الكوفة يتقدَّمهم زين العابدين «ع» مع عمّته الحوراء زينب، وبعد مرور ثلاثة أيام على الفجيعة نرى موكب النسوة بوجوههنَّ وراياتهنَّ التي تلطخت بالوحل حزناً على الإمام الشهيد، حيث تذكر الروايات أنَّ نساء قبيلة بني أسد هرعنَّ لدفن الأمام الحسين وأصحابه ويقال إنَّ الإمام زين العابدين عاد من الكوفة إلى كربلاء ليشترك معهنَّ في دفن جثمان الذبيح المقدسة. إنَّ مواكب العزاء في شهر محرّم تحمل نكهة خاصة برغم المأساة لأنها تُعبّر عن ميثولوجيا عراقية أصيلة لابد من الحفاظ عليها إحياء لذكرى معركة الطف وحتى لا ننسى أنَّ قتلة الإمام الحسين «ع» مازالوا يتربَّصون بنا وبوطننا الحبيب وهدفهم الخبيث أنْ يجعلوه خراباً في خراب؛ ولكن هيهات مادامت أصوات عشَّاق الحسين تصدح كطيور من الجنَّة ومادام دم الحسين يضيء تراب كربلاء إلى يوم الدين.