كعادة كل سنة ستضج مواقع التواصل بمنشورات وتعليقات تمجّد حركة (الضباط الأحرار) بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم في 14 تموز 1958 والتي أطاحت بالحكم الملكي في العراق وتصفها بالثورة الشعبية الأشتراكية التقدمية…الخ في حين يرفع أنصار المَلَكية واليمين عموماً رايات الحزن منددين ب(الأنقلاب) الدموي الأسود الذي أسس للحكومات الشمولية وقضى على الأمل في تأسيس عراق ديموقراطي حقيقي لا يتحكم فيه البسطال والدبابة بمصير الشعب. ومثل كل الأحداث التاريخية الكبرى في حياة الشعوب فأنه-غالباً- ما يتم تقويم ذلك الحدث بناءً على تحيزات فكرية أو منطلقات أيدلوجية أو محاكمة الماضي بمعايير الحاضر. ناهيك عن كثير من «اللواحيك» الذين يستمدون آراؤهم من مواقع وشخصيات يميلون لها لأسباب مختلفة.
أن مشكلة تعريف،وتحريف،وتزييف التاريخ مشكلة كبرى لا يختص بها العراق فحسب لكنها تزداد تعقيداً حينما يكون الحاضر مليء بالمشاكل والأخفاقات فيتحول الماضي الى مجال للتسابق بالأنجازات. وهكذا فأن اليساريين، و»الثوريين»، «ولواحيكهم» ممن أخفقت كل أحزابهم وآيدلوجياتهم وحركاتهم السياسية ونظم حكمهم (الثورية) وأوصلوا العراق لما هو فيه ينبشون في الماضي عن (أنجازات) يضخمونها أو يتوهمونها ليبرروا فشلهم بالتآمر عليهم بسبب هذه الأنجازات. أما المحافظون واليمينيون والملكيون وأعداء اليسار و»اللواحيك» فيغفلون التفاوت الطبقي والأجتماعي،ومعدلات الفقر،وسياسة التبعية للغرب وغيرها من أوجه القصور السياسي والأقتصادي والأجتماعي،ليضخموا أنجازاتٍ (طبيعية) ،أو يتوهموا أنجازاتٍ (عرمرمية) كي يبرروا فشل الحاضر بآثام الماضي. أن كلاً من الطرفَين المتناحرَين يريد تخفيف أعباء الحاضر بأخطاء الماضي،وتبرير فشله الحالي،بماضيه الخالي. المهم في الحالَين هو التنصل من مسؤولية أخفاقات الحاضر بألقائها على أنجازات الماضي.
أن على من يريد الحكم على الماضي أن يعيش ظروفه ومقدماته قبل الحكم على نتائجه.ما حصل في تموز 1958 لا ينفصل عن الدور الذي لعبته المؤسسة العسكرية وضباطها في تاريخ العراق منذ تأسيسه.فهو لا يحمل فقط بعداً سياسياً وأنما بعداً مؤسسياً مهماً. كما أنه لا ينفصل عما حصل في مصر والمنطقة عموماً، والصراع السوفيتي الأمريكي. وهو لا ينفصل بالطبع عن الظروف الأقتصادية والجيوستراتيجية التي كان يمر بها العراق. وهو لا ينفصل عن حالة الحراك الأجتماعي الناشئة عن بروز الطبقة الوسطى وتضخم أمكانات الأقطاع ،ودخول العراق عصر الصناعة. بأختصار فهو نتاج حركات وتفاعلات أجتماعية سياسية أقتصادية وليست آيدلوجية فقط. ومن يحكم على ذلك ويحلله يجب عليه أن يخوض في كل هذه العوامل بعين الباحث لا بعين وفكر غير الحيادي والمتحيز. لذا لا يمكن لليساريين تصوير ما حصل على أنه ثورة قادها فكر ماركسي أو قومي أو سوى ذلك. كما لا يمكن في الجانب المقابل (تطهير) الملكية وشيطنة الثورية دون دراسة كل الظروف أعلاه. أن حركة سياسية كبرى كتموز 1958 وسواها لا يمكن أن تنفصل عن حركة المجتمع عموماً ويتم تصويرها بانها نتاج عامل واحد فقط.هذا لا يعني تبرير الجريمة البشعة التي أرتكبها (الثوار) مع العائلة المالكة والتي شرّعت الأبواب لمستوى جديد من العنف السياسي في العراق.
ما أريد قوله بأختصار،أننا بتنا نشهد مزيد من الصراعات والتناحرات حول ماضينا. فقبل أسابيع كانت هناك حملة ممنهجة لتمزيق العراقيين تاريخياً بخصوص ثورة العشرين. كما شهدتُ فيما سبق حملات أخرى بخصوص تاريخ العراق الأسلامي والحديث ومحاولات جغل العراقيين فريقين أو أكثر حوله. وكل تلك الصراعات التاريخية التي يجري خوض غمارها من قبل مختصين في التمزيق،والجُهّال و»اللواحيك» أنما تقود العراقيين ليخوضوا معاركهم في المكان والزمان الخطأ. فبدلاً من خوض معارك الحاضر مع التخلف والطائفية والفساد والهوية الوطنية الممزقة ،نستنزف قوانا وطاقاتنا (بقصد أو دون قصد) في خوض معارك الماضي التي حُسمت وماتت ويراد بعثها من جديد.