في ظهيرة أحد أيام حزيران الحارة كنا متموضعين في ساتر نهر جاسم في ملجأ تحت كم هائل من تراب الوطن ،اجبرنا تحت وطأة حرارة الجو على عمل فتحات مؤطرة بتحكيمات تسمى رامكو وهي قطع من صفائح الحديد المموجة ندخلها بين اكياس الرمل لتسمح بمرور الهواء رغم خطورتها لأنها تسمح كذلك بمرور شظايا القصف المستمر الذي لايهدأ، ولكن دخول الهواء رغم ضريبته العالية محبب في تلك الأجواء القاتلة ببطء شديد، وفي فترة الظهيرة شاهدت من مزغل الهواء جندي قادم من بعيد يركض ويومئ بكلتا يديه ثم يتعثر ويسقط وينهض ثانية بسرعة ويتقدم نحونا، صحت بمن كان معي من رفاق السلاح (وليس العقيدة ) ولكم بس لا انوخذنا وطوقنا العدو، قوموا إلى ذاك الجندي لنستفهم مايجري وخذوا سلاحكم، تقدمنا جميعا بقفزات متتالية نحو الجندي الذي ما أن التقينا به حتى خر صريعا على الأرض والتراب يغطي وجهه وامارات الاجهاد بادية عليه، ثم قلبه الجنود وهو يصيح مي مي، صاح به الجنود ملعون… من هناك جاي تركض مثل المخبل على ماء، رفعوه إلى الساتر وصبوا على وجهه الماء وبللوا شفاهه ولسانه خشية أن نفقده بسبب العطش الشديد، وهو يردد كلمات متقطعة لايفهم منها سوى كلمة واحدة( والله وكفت، وكفت ولكم وكفت ) استمر سكب الماء على راسه ويديه وصدره وهو يحاول انتزاع زمزمية الماء ويفرغها جرعة واحدة في فمه، لكن الجنود منعوه لأنهم يعلموا خطورة ذلك على حياته، وبعد لأي وجهد جهيد وقراءة المعوذات والصلاة على سيدنا محمد هدأ روعه وخف تنفسه وقال والعباس وكفت الحرب، هنا انهال الجنود عليه بالسب واللعن واحيانا بالضرب البسيط مع عبارات جند المشاة التي تلقى في هكذا محفل ،أبعدت عنه الجنود وقلت له اخي العزيز شفت حلم لو شنو، اجاب طلعوا إذاعة الكويت طلعوا إذاعة الكويت، هنا وجم الجميع، ولما كان جند المشاة رفيقهم الدائم بألواجبات الليلية المزعجة راديو الترانسستور الصغير تم فتح عدة أجهزة وكلها متوقفة على إذاعة الكويت كالعادة لأنها ترسل بثا اذاعيا متوازنا ومنوعا، ماهي إلا ثوان حتى صدح المذيع بتكرار ماتم نشره في النشرة الاخبارية وهو نبأ موافقة إيران على وقف إطلاق النار، هنا اسقط بيد الجميع، بدأت الحوارات العراقية والتشكيك وتقليب الأمور يمنة ويسرة، والجندي التعبان وقف كالاسد وهو يكيل الشتائم واللعنات على إخوانه من موقع المنتصر ويأمرهم بصنع الشاي فورا مكافأة له على هذا الخبر، وبدات الإذاعات تنقل وتؤكد الخبر وخصوصا الإذاعة الرصينة سابقا والمعتمدة لدى آبائنا واجدادنا من قبل إذاعة ال BBC عندها تأكد الخبر، حتى يومها توقف القصف المعادي علينا، وفي الليل جائتنا أوامر بعدم القصف إلا في حالة الرد على قصف معادي والبقاء في حالة الترقب الشديد ومراقبة خطوط الجبهة بشدة ،عندها اخرج الجنود اغطيتهم وباتوا تلك الليلة خارج الملاجئ، وبعدها بأيام كانت وفود المراقبة من الأمم المتحدة تجوب سواترنا جيئة وذهابا، بعدها بأيام ونحن في نشوة الإحتفال بتوقف شلال الموت الأعمى انقطع الخط السلكي لمخابرة اللواء، وجاء نائب ضابط كبير السن لإصلاحه وتم دعوته لشرب الشاي، جلس الرجل يتسامر معنا وجند المشاة الجنوبيون تصدح حناجرهم بالمحمداوي وشجنه الراقي قال الرجل المسن انتم طبعا فرحين ولكن سوف تأتي أيام اشد قسوة من هذه على العراق، صاح به الجمع روح طير وين اكو اتعس من هذه الأيام، قام الرجل ولبس خوذته التي كان يجلس عليها وهم مغادرا وقد ارخى الليل سدوله ماهي إلا خطوات حتى سمعنا صوت انفجار لغم ارضي ضد المشاة قتل الرجل في محله بالحال، دارت الايام وصدقت نبوئته إنها نبوءة رجل قبل الموت بلحظات، مرت أيام وسنوات اتعس مما سبق في حرب الثمانينات كان الموت مقصورا على الشباب والرجال الرجال أما فيما بعد فأخذ يحصد شامي عامي لايفرق بين امراءة وطفل وكهل وشاب، لله درك يا عراق من اي طينة صبر خلقت، رحم الله كل شهداء العراق المظلومين السابقين واللاحقين، ولعن الله الظلمة والطواغيت، وعند الله تجتمع الخصوم.