تتفتحُ على شرفة القلب أزاهير فرح مؤجل، وتومض في البال الصور، وتلحّ النفس بعطشها لحبّ أصابه اليباب، وأورقت في شجيرته بوادرُ خريف مبكر. لستُ أصف مشهداً من الطبيعة، ولا أولعُ برسم الصور بالكلمات، كلّ ما في نيتي أن أتسلل إلى قلب العائلة العربية المعاصرة، التي تغيّرت كثيراً المرجعية الأخلاقية والسلوكية التي تضبط طبيعة العلاقة بين أفرادها. هل ادّعي أنّها في الفترة الراكدة والصافية التي سبقت ثورة «الإعلام المعلوماتي» تميّزت بالدفء والحميمية والقرب البعيد الذي يتيح لأرادها التقارب والتواصل، من دون أن يسحق المسافة المهمّة للتفرُّد والحرّية والحياة؟ هل أجزم بأنّها كانت صيحة لا تشوبها شائبة؟ بالطبع لا، ولستُ بصدد البحث والرجوع إلى دراسات لدحض نظرية ما أو إثباتها، أو لإيراد الإحصاءات والأرقام التي لا أطيق ولا أجيد التعامل معها؛ لكنّي أتلمّس بأنامل الإحساس تلك الحراشفَ الخشنة التي نمت في زوايا البيت العائلي، وتلك البرودة التي تسللت من نوافذ العالم المشرعة على فضاء مفتوح بلا حدود. شَكَّل التطوُّرُ التكنولوجي تحدّياً صامتاً، وزحفَ كجندي متخّفٍ إلى أطراف الحياة الاجتماعية العربية، وقوبل بالرفض وبالإنكار من قِبَل قطّاع واسع من المنكرين له، أو ممّن يجهلون أياديه الأخطبوطية المتعدّدة، التي تطول بيوتهم من دون أن تقرع الأبواب، وتصل إلى عيون أطفالهم وعقولهم دونما استئذان أو إذن من أحد، والذي يُعدِّل ويخلخل ويسهم في تشكيل المنظومة القيمية التي تُشكِّل مرجعية سلوكية مستقبلاً، وبعضهم أفسح له بابَ القبول من دون رصد حدود مسبقة لكيفية التعاطي مع هذا الزائر المقيم وكأنّه فرد جديد في العائلة وقطّاع من المجتمع، وقلّة ممّن حاولوا التعامل بحذر والتركيز على الجوانب المشرقة، وتقليل الجوانب المظلمة، فنجحوا إلى حدٍّ ما.
– الأُمّ أصبحت ضحية: المراقبُ بعين القلب للعائلة العربية المعاصرة يجد أنّها ازدادت اتصالاً وتواصلاً في التفاصيل، فبات بمقدور الفرد أن يعرف ويطّلع على التفاصيل المتاحة في شبكات التواصل الاجتماعي لأقربائه وأصدقائه ومعارفه وأصدقائهم، وبات ذهنه محشواً بكمّ المعلومات التي قد تفيد وقد تضر عمّن يتواصل معهم افتراضياً، وفي المقابل تقلص التواصلُ المباشر والحيّ والدافئ بين أفراد العائلة النووية والممتدة، وباتت المعايدات والتهاني والمواساة الإلكترونية تشكّل ركناً تتّسع أهمّيته مع تعمق التكنولوجيا في الحياة الاجتماعية، ونكاد نصل إلى زمن تتجمد فيه العلاقات إلى حدّ الفضاء الافتراضي، وعلينا ألّا نغفل حجم الوقت المستهلك والمستنفد في التواصل الافتراضي، الذي يختلط فيه المثمر مع المجدب، والمفيد مع المضر، والمفرح مع المحزن، إضافة إلى ما يحمله من تأثير مباشر وغير مباشر على الحياة الواقعية للمتعامل معه، خاصّة أنّ حالات الإدمان على التكنولوجيا والقنوات التي تتيحها للتواصل والاتصال، ومجانيتها وسرعتها وجاذبيتها وسحرها باتت في تزايد، وتعدّدت درجة خطورتها وأعراضها، وربّما نحتاج إلى الاعتراف بوجودها كتحدٍّ وكمشكلة قبل بدء البحث عن كيفية التعاطي معها كمرض من أمراض العصر. وأترك كلّ الكلمات المستهلكة والأسئلة المكرّرة خلفي، لأقرع باب أكثر القلوب دفئاً وأماناً وحبّاً؛ قلب الأُمّ، وأسائله عمّا يحمله من حِراب زُرعت في جنباته وقطعت نياطه، في زمنٍ تحوّل فيه الأبناء إلى مستهلكين شرهين ومدمنين عنيدين للتكنولوجيا، وباتت الأُم تُشكِّل لهم وسيلة للسند والمساعدة بالسرعة المطلوبة، فكأنّها موقع إلكتروني يزورونه عندما يتذكّرون حاجتهم إليه. ربّما تتقبّل العائلةُ طبيعة التغير الذي أصاب العلاقة بين أفرادها، وربّما الجيل الجديد تشكّل وعيه على بيت ومحيط بأسلاك وشاشات كثيرة وهواتف ذكية، باتت جزءاً من تكوينه وبنيته الثقافية والتربوية لا يمكن سلخه، وربّما زُرعت في منظومته القيمية نقاط الحبّ والتواصل العائلي باهتة وبلا بريق ضرورة؛ لكنّ ما أعرفه وأحسّه كالأسلاك الشائكة منغرسةً في روحي؛ أنّ الأُمّ في العائلة العربية المعاصرة هي الخاسرة الكبيرة والضحية الصامتة والدمعة التي لا تجف؛ لأنّها، ببساطة، لم تتخلّ عن دورها في العطاء والبذل وإشراع نوافذ الحياة لعائلتها؛ ولكنّ الجميع يزيد من مسافة البُعد ويُخلِّف الجفاف في قربه البعيد عن جنّتها، ويتخلّى عنها