احتفت السفارة الفرنسية في العراق بالفرانكفونية عبر أسبوع ثقافي منوع، أقيم بالعاصمة وخارجها في بادرة جعلتنا نستعيد ذاكرة بغداد الحضارية.. أيام السينما، والمسرح، والمعارض التشكيلية، وحفلات الفرقة السمفونية، والصالونات الأدبية، والمقاهي التراثية، ومعارض الكتب، والامسيات الحوارية، فمن يطالع البرنامج المعد للمناسبة يدرك تماما.. لماذا أطلق على باريس عاصمة النور؟والنور هنا لا يعني الضوء، فنحن بلاد لا تغيب عنها الشمس ابدا، وانما يقصد به التنوير، والمعرفة، والفنون الجميلة التي أصبحت في العراق مفردات لغوية قابعة في المتحف اللغوي، لا يعني تداولها في المناسبات أكثر من مجرد طقس فلكلوري، إذ نستدعيها أحيانا من الذاكرة والوجدان عندما نعثر بالصدفة على فعالية ثقافية معلنة هنا أو هناك، تنظم بدوافع ذاتية.. لا بمبادرات حكومية.إن الثقافة العامة هي نتاج فكر السلطة، فإذا كان ديدنها رفع المنسوب الثقافي، نرى شعبا راقيا، ونجد مصطلحات متحضرة، تتداول بين الناس، اما إذا كان همها عسكرة المجتمع، وزجه في صراعات داخلية، وأزمات مزمنة، فتتوهج كلمات رديئة، تخدش السمع والروح، وتدل على تخلف البلد وتراجعه.فلكل مجتمع منظومة قيمية، وعناوين نخبوية، يستمد منها تماسكه، ويستند اليها حفاظا على كينونته، فهي بمثابة الضابطة التي تدور حولها كل التغيرات والتبدلات الطارئة، نتيجة المؤثرات الخارجية، او بسبب التطورات الجديدة الوافدة، لذلك نجد العديد من الشعوب تنهض من تحت غبار التجارب القاسية، وتعود الى الواجهة، حيث توظف الاحداث المريرة، وتتخذ منها منصات انطلاق نحو فضاءات رحبة، فتعيد بناء نفسها، وهي تدور كالرحى حول موروثها القيمي، ونخبها الثقافية.وقد تعرض المجتمع العراقي لهزات عنيفة، زلزلت كيانه، وطمست خطوط هويته، وحولته الى اشلاء متناثرة، لم تصمد امامها قيمه الاصيلة، وثوابته الوطيدة لذا فهو بحاجة الى سلام داخلي واستقرار وطني وإعادة إنتاج لثقافته التي تبعثرت.. تلاشت واضمحلت.. طمست وهي ترزح تحت مئات الأفكار الدخيلة، والعبارات المتوحشة.يخيل الي ان الفرنسيين في اسبوعهم يحاولون تذكيرنا بثقافتنا المنسية، بعد ان تحولت إلى مقتنيات متحفية، واسفار تاريخية، فقدت فاعليتها وقدرتها على مواكبة العصر، وغدت مجرد ذكريات رائعة، وكأن بلاد ما بين النهرين تعاني من العقم المعرفي.. اجدبت وتصحرت، واصابها وباء التدهور والانحطاط، فأضحت ارضا مقفرة، الهارب منها فائز برحمة ربه.