الذي يؤخذ من بيان مجلس القضاء الاعلى ان جريمة جبلة حصلت بسبب “اخبار كاذب” والادلاء “بمعلومات غير صحيحة للأجهزة الأمنية”. وهذا الكلام يعني، إنْ صح، ان مواطنا استطاع استغفال الدولة لتحقيق مصلحة شخصية، او ان الدولة على درجة من الغباء تمكن المواطن من استغلالها.
وفي الحالتين يمكننا ان نقول ان الدولة كانت طرفا في الجريمة، ومثل هذا المواطن فاسد حيث يتمثل فساده في اساءة استخدام امكانات الدولة لتحقيق مصلحته الشخصية.
وهذا فساد على المستوى الجزئي micro وعلى المستوى الكلي macro للدولة والمجتمع.
ولا علاقة لهذين المستويين من الفساد بالنظام البرلماني ولا بالديمقراطية ولا بالدستور، على سبيل المثال، لكنه على علاقة مباشرة بمنظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة.
وهذا ما برحتُ اؤكد عليه منذ سنوات طويلة مستعينا بقوله تعالى: “ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النّاس”. وخلاصة القول في هذا المجال ان الانسان هو سبب الصلاح او الفساد في الدولة والمجتمع. لكل فرد في المجتمع نصيب من الفساد او الصلاح في الدولة والمجتمع بحسب نشاطه وفعاليته وموقعه ودوره. والمشكلة ان الذين يتحدثون عن الاصلاح مازالوا يتناسون عن عمد او جهل حقيقة ان الفساد والصلاح مرتبط بالانسان اينما يكون سواء في الدولة او خارجها. وتبعا لذلك يغفلون حقيقة ان الاصلاح يجب ان يتم على مستويين يناظران مستويي الفساد على المستوى الكلي وعلى المستوى الجزئي.
وعليه يجب ان يتضمن الاصلاح عمليات على المستوى الكلي للمجتمع والدولة، وعمليات على المستوى الجزئي اي المشكلات الفرعية التي يتعرض لها المجتمع والدولة، مثل الفساد، والبطالة، والفقر، وانخفاض مستوى الانتاجية، الخ. وان الانشغال بالجزئيات مع اغفال الكليات غير صحيح، كما ان الانشغال بالكليات مع اغفال الجزئيات غير صحيح. انما هما خطان يدعم احدهما الاخر لتحقيق الهدف المشترك وهو الاصلاح. وجامع هذين المعنيين قوله تعالى في القران الكريم: “إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم”.
انني اكرر القول ان المشكلة في العراق ذات بعد ثقافي وتربوي وقيمي، اضافة الى ابعادها السياسية والاقتصادية والامنية الخ. وان اي حل او اصلاح للمشكلة لابد ان يتضمن هذه الابعاد كلها. وحتى لا يتشعب الموضوع وتضيع حلقاته المركزية في زحمة النقاشات جمعت كل هذه الابعاد بكلمة الدولة الحضارية الحديثة.
والمقصود واضح، ومضمونه ان الاصلاح يجب ان يتضمن العمل على اعادة بناء الدولة، وليس فقط الانشغال في شكل حكومتها وهل هي حكومة اغلبية ام توافقية، وان هذه الدولة يجب ان تكون حضارية، بمعنى انها قائمة على اساس منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري وعناصره الخمسة، وان هذه الدولة يجب ان تكون حديثة بمعنى استنادها الى العلم في تنظيم الاقتصاد والادارة والسياسة والخدمات والبنية التحتية وغير ذلك.
وهذا كله يتطلب ويتوقف على تغيير واعادة تشكيل المحتوى الداخلي للمجتمع، وتنشئة اطفاله على اساس منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري. وطالما رددت ان هذه هي مهمة المدرسة بالدرجة الاولى، حيث يتعين على وزارة التربية ان تضع نظاما تربويا حضاريا حديثا يواكب الطالب من السنة الدراسية الاولى حتى اكماله سنوات الدراسة الاساسية الالزامية اي ال ١٢ سنة الاولى.
ما اقوله اعلاه ليس اكتشافا جديدا، وانما هو الطريق الذي سلكته كل المجتمعات التي توصلت الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة في بلدانها. وما على المجتمع العراقي الا ان يسير في هذا الطريق، وهنا يتعين على النخبة الواعية ان تعمل على بناء اجماع وطني على سلوك هذا الطريق من خلال الدعوة والتثقيف العام.