جُبل الإنسان على صفات عدة بعضها حسن والآخر سيء ، لكن النسبية هي المائز بين إنسان وإنسان ، بالقطع أن الناس ثلاثة أصناف خير متقي ، وشرير منحرف ، وما بينهما جامع ، فصفة الخير والشر هي نسبية بين من انعم الله بها عليه ، ومن أبتلاه الشيطان بها ، فهناك من طُبع على الخير ، وضده من جُبل على الشر ، وبينهما المتأرجح . ويقيناً أن ما ينطبق على البشر ينطبق على البلدان ، فالدولة كائن معنوي يقوده بشر ومؤسسة ، ولكن ما يميز سياسات الدول أن بعضها مرتبط بأرتجال قادتها ، وأخرى تقودها مؤسسات ، ترسم سياسات وتضع ستراتيجيات وتحوك مؤمرات وتتخذ قرارات ، للمتصدي الخوض في الجزئيات وليس له المساس بالكليات ، وإلا عد مارق متمرد ، العزل جزائه والملاحقة مصيره . والمتتبع لسياسة العراق مذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة وحتى اليوم ، يجدها سلسلة من التخبطات والارتجالات والتناقضات الناتجة عن تأليهات شعبية واستبدادات سلطوية، فالعراق البلد الوحيد في المنطقة العربية والشرق الأوسط ، الذي قدم القرابين على طريق الاستقلال وحينما ناله ، نصّب حاكم أجنبي لحكم بلاده ، وكأنه خال من القادة والكفاءات ، ورجالاته آنذاك تملء عين الشمس ، وعددهم يكفي لحكم بلدان وأوطان وأصقاع ، واللافت أن محطة الاستهداف الأولى للأجنبي ، من نصّب وبايع ودعم وتوج ، فقد ناصب فيصل الأول العداء مراجع ورجالات حوزة النجف الأشرف ، إذ كانت وقفته الأولى في مواجهتهم ، ربما لعقدة في النفس تجاه من نصّب ، أو لأن النجف لن تصمت على انحراف ، ولن تهادن جبار ، ولن تسكت على مفسدة . ورحل حكم الأجنبي بإنقلاب عسكري لا يزال يحلو للبعض وصفه بالثورة ، وحل حكم العسكر ، وخرج الشارع مهللاً مبايعاً متشمتاً بمن رحل وكأنه هو من فرض حكمه بالقوة ، ولم ينصب ويُبايع وتذهب كبار رجالات القوم زاحفة صوبه ، متقربة لأركان حكمه لا له شخصياً ، فوصاله بعيد ، ومقامه سام ، وقبوله الرئاسة فضل وجميل وتنزل . جاء حكم العسكر ليبشر بعهد جديد سمته الانقلابات ، وشيمته المؤمرات ، وأداته القتل والتعذيب والترهيب والتهجير والملاحقات والتصفيات ، عهد لم يبقِ صديق ولا شقيق ولا ناصر الا وناصبه العداء ، عهد استعدى شعبه ، وقتّل مناوئيه ، وصفّى أنصاره ، وكل وغد يسلمه لوغد أنذل ، والشعب يخرج في أعقاب كل انقلاب مؤيد مهلل مناصر مبايع . وزال حكم العسكر بحكم عسكر وافد ، استخدم القوة لإسقاطه كما استولى هو عليها بالقوة ، وقدر الله أن يرحل الفاتح بعد حين لم يطول ، بإرادة المقاوم والمفاوض ، واعتلى سدة الحكم مظلوم الامس الذي جاب الأصقاع ، وتحمل قساوة المطاردة والتهديد بالتصفية ، الذي غادر الوطن وترك الأهل فريسة وحوش الطاغية ، فكان المأمول والمتوقع والمنتظر ، أن يعوض المظلوم ، وينصر المقهور ، ويصطف الى جانب الشعب ، الصابر المحتسب المترقب لتباشير الفرج ، المتطلع لزمن الحرية ، المنتظر لعهد الإنصاف وجبر الخواطر وتعويض الظلامات ورد المظالم ، وإذا بالعهد الجديد يُعمل الانتماء الحزبي ويغادر الوطني ، ويقرب المتزلف من رجالات العهد الراحل ، ويقصي المبدئي الكفؤ أبن الوطن ، يُدني الفاسد وينفر من النزيه ، الفاشل عنده هدف والناجح عقبة ، المتعقلن مترفع متكبر لا ينفع ، وغير المستقر النزق بسيط معطاء ، والحصيلة فشل وفساد وبطالة ونقص في الأمن والخدمات ، وتظاهرات مناوئة معادية تطالب بالرحيل . والملاحظ أن الجامع المشترك بين حكام كل العهود دون استثناء ، أنهم يعدون حين اعتلاء سدة الحكم بوطن حر مستقل ، شعبه آمن مستقر متنعم بخيرات بلده ، الديمقراطية عنوان الحكم ، والحرية استحقاق لا منة ، خير الوطن للقائم والجيل والقادم ، الوعد بخطط البناء تُذيل خطب القائد ولا تبارح ذهن وقلم كاتبها ، القطاع الخاص والاستثمار شريك رئيس ، وتطوير القطاع العام وتحديثه أولوية مقدمة ، تعويض الظلامات والماضي عناوين وشعارات تملء الخطابات والشعارات ووسائل الإعلام ، والحصيلة دائماً لا غالباً خوف وتجويع وفساد ، وظهور مافيات فساد وتخويف وتخوين ، تلعن من قبلها ، وتمارس ممارساتها بوسائل جديدة مبتكرة في محاولة للتغطية والتورية . وبإجراء مسح إحصائي مبسط بين العراق والبلدان العربية بدءاً من يوم استقلالها وحتى يومنا القائم ، ستكون النتيجة دون شك ، أن منحنى تقدم وبناء ، واستثمار العراق لخيراته في تراجع مستمر ، قبال ارتفاع الخط البياني للغالب من البلدان العربية ، ليس العيب أن يكون الوطن فقير بخيراته ، صغير بحجمه ، متطرف في مناخه وطقسه ، يحادده الغني وهو شحيح ، لكن العيب كله أن يكون الوطن غني وشعبه فقير ، كبير في حجمه وشعب يتمحور حول المركز تاركاً الأطراف لإهمال دولة ، أو شحناء حدود ، أو فقدان أمن ، والملاحظ أن الغني من البلدان العربية والفقير منها ، راح ينبني ويتمدن ويساير المستجد ، للحاق بركب التطور والتغيير ، فسمة العصر السرعة والمسايرة ، فمن لحق بركبها دار في مدارها ووسم بالمتطور ، ومن تخلف عنها عفا عليه الزمن وصار من الماضي . على المتصدي اليوم أن يكون أكثر محلية ، فينظر للعراق على أنه الأولوية الأولى والثانية والثالثة والمئة ، وغيره تالٍ في سلم الأولويات ، فمقياس وطنية الحاكم سلامة أرضه وتطور بلده ورفاهية شعبه وأمن سكانه ، وبالقطع أن ليس في ذلك دعوة لمجافاة العالم ، ومقاطعة المحيط ، والانكفاء على الذات ، فالعراق جزء من محيط وعالم ارحب ، لكن للاهتمامات سلم وأوليات ، فالوطن والمواطن مقدم
وغيره تال ، ومعيار الوطنية إعمال المقدم وتأخير التال ، والإتيان بالواجب وتأخير المستحب ، فالوطن والمواطن واجب ، وغيره مستحب .