لطالما رددنا مقولة إنّ ” الدين أفيون الشعوب” على أنها تعبير عن الإلحاد في فكر كارل ماركس الذي قالها في السياق التالي : ” الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الإجتماعية التي طردت منها الروح ، إنه أفيون الشعوب “.
وبعد سنوات من الإستزادة المعرفية وتجربة الحياة التي تقود الإنسان إلى مزيد من التأمل والمراجعة صرت أرى فيها بُعداً آخر لا يرتبط بالإلحاد بالضرورة ، فالإنسان لا يجد في الدين مجرد إيمان بالخالق سبحانه، أو مجرد تطلّع إلى رضا خالقه ونيل ثوابه ، بل يجد في الدين أيضاً السكون وراحة النفس والرضا واتباع قيم أخلاقية آمنت بها البشرية حتى قبل نشوء الأديان والرسالات السماوية . ومن أجل فهم أكثر عمقاً لهذه المقولة من المناسب عدم اجتزائها والعودة إلى النص الكامل المذكور الذي وردت فيه لنجد أن فيها تعبيراً عن حقيقة أن الدين يقلل من معاناة الإنسان ويزرع أملاً في نفسه في مواجهة حياة لا تكون في أغلب الأحيان عادلة .
ولكن متى يكون الدين أفيوناً مخدّراً يفتقد الإرتباط بالواقع وبالحـــقائق ؟.
الدين في ذاته يرفض الوهم ويجعل الإيمان وسيلة فعالة لممارسة دور إيجابي مؤثر في حياة الإنسان المؤمن ذاته وفي محيطه الذي قد يتسع أو يضيق تبعاً لحجم دوره في الحياة ، لكنّ بارقة الأمل التي يسعى إليها الإنسان المغلّف بالجهل تجعله يتمسك بكل مظهر أو ممارسة لطقس يظنه دينياً ، ويدفعه إلى مزيد من الإنجرار والتمسك بما يظهر له من ممارسة قولية أو فعلية لأناس آخرين يتخذون مظهر المتديّن المرشد، وهؤلاء قد يصبحون رموزاً في وجدان الإنسان الساذج الذي لا يُعمِل عقله وتصبح أقوالهم مسلّمات يؤمن بها وأفعالهم سنناً واجبة عليه أو في الأقل محببة لديه ، فهنا يمكن أن يصبح الدين أداة لقيادة جموع هائلة من الناس ، ودافعاً نحو ممارسات منحرفة لا تتوافق مع مبادئ الدين الحق ، وطريقاً يقود إلى الإستكانة والإستغفال والتقليد الأعمى والكراهية غير المبررة وحتى العدوان ، وكل ذلك بتأثير (أفيون) فكري يعطّل في الإنسان روح المبادأة والتفكير القائم على المنطق ويبعده عن حقائق العلم وتجاربه ومعطياته وعن مسيرة الحياة الإجتماعية .
وفي حياتنا الحاضرة ومجتمعنا الذي نعيش وسطه هناك كثير مما يستدعي التأمل في واقع استغلال نزعة الإيمان والإلتزام الديني لدى الناس الذين لم يتهيأ لهم من الوعي والتعلم ما يطلق العنان لهم للتفكير الهادئ والبحث المجرد العميق ويبعدهم عن المسلمات الأولية ويضيّق دائرة ( التابو ) في دواخلهم ، فنسأل أنفسنا : ألسنا هنا أمام أفيون مخدّر بالغ الضرر يتخذ الدين وسيلة لتحقيق الإدمان عليه؟.
وحين نبتعد عن الأفكار المجردة ونتحول إلى الواقع اليومي نتساءل :
أليس إقناع البسطاء بالتبرك بزفير معمم في زجاجة ماء أفيوناً ؟.
أليس خداع البسطاء بأن نخلة أو جراراً زراعياً مباركان يعطيان المُراد لمن يتمسح بهما أفيوناً ؟.
أليست دعوة الزوار إلى رمي كمامات الوقاية من الجائحة عند التوجه إلى العتبات المقدسة أفيوناً ؟.
أليس تسليم النذور إلى من يدّعون أنهم رجال دين ليعيشوا بفضلها نعيم الدنيا أفيوناً ؟.
الأمثلة كثيرة على اتخاذ الدين أفيوناً لاستغلال البسطاء الفقراء وإغناء أدعياء التديُّن.
{ قاض متقاعد