مباشرة يضعنا الروائي من بداية الرواية في قلب قصة حب، ستنتهي عن قريب جدا، نظرا للأوضاع المزرية التي تنخر البلاد و العباد إلى النخاع، المتمثلة في محاولة التيار الإسلامي السيطرة على السلطة بالقوة، و فرض قوانين شرع الدين بالعنف. فكانت ردة الفعل من الطرف المدني قوية، خاصة بعد التهديدات المتكررة لأصحاب الفِكر و الأقلام التنويرية بالتصفيات الجسدية.
رفضت ( نازلي ) مقابلة ( زينو ) عدة مرات. و حين قابلته وضعت حدا قاطعا لعلاقتهما العاطفية، بعد أن اعترف لها زينو بعشقه لها، و نيته في الارتباط بها. قالت ستتزوج عن قريب برجل ثري صاحب تجارة كبيرة، أحضره لها أخوها الذي فرض عليها لبس الحجاب بالقوة.
يقع زينو في لواعج الفراق، يغرق في لجة الأشواق، مع ذلك يتماسك، يأخذ قرار بداية صفحة جديدة رغم النخر الذي ينهشه من الداخل. زيادة على الضغط الذي يمارسه التيار الإسلامي على الأفراد و المجتمع، ينزوي و يعتزل المجتمع، لا يخرج إلا نادِرا، صار نحيفا، انكب على قراءة كتبه خاصة الأدبية منها، حشر نفسه في غرفة صغيرة أسفل بيتهم يدعوه القبو، لعله قبوه الداخلي، و اشارة إلى رواية ( في قبوي ) للروائي الروسي دوستيوفسكي المتأثر به.
أثناء هذه العزلة و الانطواء، يستطرد الروائي استطردا طويلا، كاد أن ينسينا قصة حب نازلي و زينو، ليأخذنا في رحلة مع قصص زينو في صباه المبكر و المراهقة. كيف كان حساسا، و مدى معناته من نقص الحنان و كيف أثّر بالسلب عليه، و الحديث عن مدى شغفه بالقراءة، خاصة قراءة أمهات الروايات العالمية و مدى تفاعله معها و تأثره بها في تكوين شخصيته إلى أن صار صاحب قلم.
صَاحَب كل هذه الذكريات سرد بعض الأحداث التاريخية، التي وقعت قبل و أثناء الثورة الجزائرية و بعد الاستقلال. وظّفها الروائي لا لغرض الحديث عنها فقط، بل لكشف بعض الحقائق المغيبّة عمدا، التي من النادِر التطرق لها، نظرا لأن بعض من قام بها مازالوا على قيد الحياة، و بأيديهم زمام السلطة، مع ذلك كان للروائي جرأة التطرق لبعض التفصيل غير المُمِل، و دون الخروج عن أدبية النص الروائي، أو الوقوع في الحكي التاريخي الجاف الذي ينفّر القارئ من نصه، كان حذقا جدا و ذكيا في سرد جميل، مع ذكر بعض الأسماء أو الاشارة لها سواء من الطرف الجزائري أو الفرنسي. من جهة أخرى ذكر تلك الأحداث، و هو يستقصي الأسباب التي أوصلت البلاد إلى الحضيض و ذلك النزيف، ليقول لنا بأسلوبه غير المباشر، أن هذه الحالة المأساوية التي نتخبط فيها أسبابها تلك الأحداث المؤلمة الماضية، ما نعيشه الآن هو نتيجة حتمية لتلك الأحداث التاريخية الدموية العنيفة، لهذا يستحيل قطف الياسمين من الشوك، و لا جني العسل من الحنظل.
من تلك الأحداث المؤلمة، الصراع الرهيب الذي دار بين المصاليين ( نسبة لمصالي الحاج ) و جبهة التحرير. دخول جيش الحدود و استلائه على السلطة بالعنف و الاغتيالات. التطرق لقضية ( لابلوييت ) التي ذهب ضحيتها مجموعة من الطلبة الذين صعدوا الجبل للمشاركة في الثورة، تم ذبحهم بالسلاح الأبيض. انقلاب الرئيس الرّاحل على الرئيس الأول للبلاد.هكذا نبش الروائي قبور التاريخ التي دفنوا فيها حقائق مرعبة، ثم سيّجوها بألغام تنفجر في مَن يقترب منها، لكن الروائي فك بعضها، و عرف كيف يمر.
بعد أن صار زينو صاحب قلم، لم يتمكن من الكِتابة، فَضّل الانخراط في جماعة مقاومة الغربان، يحمل معه مسدس لحماية نفسه، بعد تلقيه تهديدا بالاغتيال وسط ذلك الجو الموبوء بالدم و الذبح و التفجيرات، مع ذلك لم يتوقف عن القراءة، تلك الظروف القاسية أجبرته على خنق حنانه و رقته، و قتل الرومانسية التي عُرِف بها.
بعد عشر سنوات، مع بداية تشريع قانون الرحمة، قررت جماعة من النساء النزول من الجبال، لتسليم أنفسهن، للاستفادة من قانون العفو. يُطلب من زينو الذهاب للتحقيق مع تلك النسوة، فتكون المفاجأة الكبرى التي كادت تصعقه، حين أدرك أن واحدة منهن كانت نازلي رفقة ابنها الصغير، الفتاة التي أغرم بها من قبل، كانت في جلبابها الأسود الرث، لم يتعرّف عليها إلا بعد أن رفعت نقابها. حينها هاجت عواطفه و عادت به الذاكرة إلى الوراء، فأخذت تقص عليه القصة من أولها إلى آخرها، ذكرت أسباب مقاطعتها له، و الدمع يجري على خديها، كيف تزوجت، و صعدت إلى الجبل رفقة زوجها المتطرف ( أبو قتادة )، كيف كانت حياتها، مع تلك الجماعة الارهابية، ليستطرد الروائي من جديد في قصة أخرى على لسان نازلي، و هي تروي قصة زوجها، الذي كان ابنا غير شرعي في حادثة تاريخية حدثت مع الاستقلال، فيحلل الروائي شخصيته من صباه المبكر، و كيف وصل إلى كل ذلك العنف و القتل كانتقام مغلّف بغلاف الدين.
هكذا يتضح البناء الروائي المعتمد في السرد، كالدورة الكاملة التي تعود إلى نقطة البداية، من خلالها تم لفت انتباه القارئ إلى نهاية الرواية، مع ادراكه للخيط الذي يجمع كل تلك الأحداث المتناثرة في الظاهر، لتشكل في الأخير ذلك العِقد الجميل في العمق، مع استعمال الأمازيغية في بعض الحوارات، خاصة حين يكون الحوار مع والد و والدة زينو، كُتِب بأحرف عربية و النطق بالأمازيغية، ثم يُترجم إلى العربية، في الأخير ختمت الرواية بهذه الجملة ( رأيت أن زمن الغربان قد انتهى…و بدأ زمن الرجل الثري ) فاتحة أفاق أخرى يتخيلها القارئ.
الرواية معبأة بالعاطفة المتراكمة في أعماق الروائي كالغيم الذي سيُمطر ليغيث القارئ، تجمعت و تخمرت القصة في جوفه، إلى أن صار غير ممكن امساكها، فتدفقت عبر قلمه على الورق كالسيل الجارف. كأن الروائي كان يمارس نوع من التفريغ الذي سيخفّف عنه ثقلا أعياه من الداخل، كأن الرواية خرجت دفعة واحدة، متماسكة في وحدتها و بنائها، رغم تلك الاستطرادات العديدة و الطويلة، لم يحس القارئ بفجوات أو فراغات تمنعه من مواصلة القراءة بشغف و نهم كبيرين. تمكن الروائي من جذب القارئ بذكاء أسلوبه السردي، المتسم بالخفة المتزنة و عدم التكلف و المبالغة في الصياغة التي حملت الرسالة.