تصاب بالصداع . تشك في قدراتك العقلية على الفهم . تحكّ جبينك بكف يدك . تتأكد بأنك ما زلت على قيد الحياة ، وتستطيع القراءة ، وبأن ما تراه من كلمات القصيدة ليس وهما . تعود للقراءة من جديد وفي داخلك الإصرار على الفهم ، لما تريد القصيدة قوله ، فلا تجد شيئا قد فهمته .
تنظر فتجد كلمات الإعجاب من مثل عظيم . رائع . أبدعت ، أو هي دراسة نقدية لناقد مشهور أو غير مشهور ، فتصاب بخيبة أمل . وتذهب بنفسك الظنون لعجزك عن الفهم . لتذهب لذوي العلم والمعرفة من كهنة الأدب وعرّافيها ، مخفيا اسم صاحب القصيدة . فتعرضها لهم على أن القصيدة لشاعر مغمور . فتسمع : سخافة . ليست شعرا . مجرد ألغاز و … و..
• ولكن يا سيدي قد قلت عن القصيدة هذه ، فيها من السحر والإعجاز ما لم يتوفر لعظماء الشعراء .
ــ أنا قلت هذا ؟ متى ؟
• في دراستك النقدية المنشورة في الصحيفة ذات الرقم ……. يحتد . تحمرّ عيناه . يعبس وجه ثم يقول : مستحيل أن أكتب عن مثل هذه السخافات لشاعر مغمور مثل هذا
ــ ليس مغمورا يا سيدي .إنه الشاعر ……….
أشفق على نفسي وعلى القارئ المسكين مثلي والذي ينبهر بالاسم ، وأشفق على الشاعر الذي تبهره الرمزية المغرقة في التعقيد ، لاعتقاده بأنه كلما زادت الرمزية تعقيدا ، زادت أهمية الشاعر وكبرت الهالة من حوله . فيبدأ من هُم في بداية الدرب بتقليد الشاعر
( الغضنفر) هذا .
قابلتٌ ذات امسية أحد المهوسين بالرمزية . وحين سألته عما يقصده ، لم يستطع توضيح ما يريد وبدأ يشرّق ويغرّب ، ثم حاول التملّص من الموقف بأن قال : علي أن أكتب وعليكم الفهم ، فوجدت استغرابا ودهشة من جمهوره لإجابته غير المقنعة ، مع العلم بأن بعضهم كانوا يهزون رؤوسهم دلالة الفهم . ولا أقلل طبعا من قيمة الجمهور وقدراتهم العقلية ، والقدرة على تحليل النص . فجميعهم على قدر من الوعي والإدراك .
الإغراق في الرمزية ليست سمة إيجابية بالتأكيد ، بل أن سمة المبالغة تدل على عجز الكاتب من إيصال فكرة النص في كثير من الأحيان ، فيلجأ إلى التمويه والتستر بالرمزية . فالرمزية ملح النص الأدبي ، يزيد من جماله ويعطيه اشتهاء المعنى ، بلا إغراق وإيحاءات لا علاقة لها بالنص ، فقد تكون جملا وإشارات التقطها من هنا وهناك في نصوص أخرى ، ليرصّها إلى بعضها البعض باسم نص ، أدبي كقصيدة نثر أو قصة أو ما شابه . في حين أن إطلاق الصفة الأدبية على بعض هذه النصوص ، هو ظلم لمسمى قصيدة أو قصة .
هناك في المصطلح الأدبي ما يسمى بالسهل الممتنع . وضوح بغير استخفاف . فالرمزية المغرقة في الرمز تماما ، مثل النص الذي لا إبداع فيه . ليكون نصا ينفر منه القارئ .
نعم للرمزية التي تثير العقل وتوسع الخيال . نعم للرمزية بلا طلاسم تحتاج للعرّافين ، وقرّاء طلاسم الشياطين كي يتم فهمها .