أستاذنا العالم اللغوي الكبير الدكتور فاضل السامرائي أهداني وله الشكر مجموعة مؤلفاته الجليلة مشفوعة بكلمات المحبَّة والاعتزاز، بينها تحفتة البلاغية “على طريق التفسير البياني” في أربعة أجزاء.
والسامرائي شديد التواضع بنفسه. وهذه من صفات الكبار. مثل غصنٍ أخضر حين يحمل ثماراً فإنه ينحني. أو كالنحلة التي تجمع الرحيق في بستان من الزهور، ثم تقدّمه لنا عسلاً مُصفَّى, أو كحامل المسك إمّا أن يعطيك عطراً ومسكاً، أو أن تجد عنده رائحة طيّبة.
ومن تواضعه حين تسمعه يقول لك إنه ليس عالماً ولا أستاذاً، بل مجرد تلميذ لا يزال يتعلم في مدرسة القرآن العظيم وإعجازه، والعربية وآدابها.. فإذا سمع إطراء المحبّين انسحب فرط حيائه على أطراف أصابعه!.
والسامرائي عالِمٌ مُدهش من الأسرار الغريبة، والروحانيات العجيبة، والحكايات المثيرة، والنوادر اللطيفة.. تسأله بلهفة، وتنتظر جوابه بشوق، فيُطفئ ظمأ في قلب حائر، أو يشفي غليلاً لمشتاق.
إنه السهل الممتنع، يتحدث إليك عفو الخاطر بتلقائية محبَّبة حديثاً كله صفاء ونقاء. ولغته شجرة تورق وتزهر ككلِّ الأشجار في زمن يحاصرنا الجفاف من كل مكان، واستبيح كل شيء بما في ذلك حياتنا اللغوية.
وليست هناك أكثر متعة وأنت تقرأ في كتاب “على طريق التفسير البياني” لهذا العالم الكبير فإنه يُحلِّق بك على جناح طائر، ويأخذك بلمساته إلى عوالم بعيدة، فيشرح لك الفرق في قوله تعالى بين “يطّهّر” و”يتطهّر”، و”يذّكّر” و”يتذكّر”، و”يستطع” و”يسطع”.. و”لا تتفرّقوا” و”لا تفرّقوا”.. وبين مغفرة وغفران، وعداوة وعدوان، ونخل ونخيل.
ولماذا قال تعالى في سورة البقرة “فانفجرت” وقال في سورة الأعراف “فانبجست”؟ ثم لماذا جاء التعبير القرآني في سورة البقرة “أياماً معدودة” بينما في سورة آل عمران “أياماً معدودات”؟.
وما الفرق بين “سبع سنابل”، و”سبع سنبلات”؟.. ولماذا قال تعالى في سورة البقرة “نغفر لكم خطاياكم” وفي سورة الأعراف “نغفر لكم خطيئتكم”؟!.
وقد أدهشني حديثه الممتع عن الرؤى والأحلام. قال إنه مرَّت في حياته سنوات كان يحلم كل يوم. وكان ما يراه في نومه يصبح حقيقة في يقظته.
ومن هذه الرؤى حين رأى والده في نومه يعود من رحلة الحج، وكان في استقباله أشخاص جلس كل واحد منهم في مكان من البيت، وكان أمام والده طبق من برتقال، وعندما قام بتقشير إحداها انسكب الماء على ثوبه.
وحدث في اليقظة أن عاد والده بعد أيام من الديار المقدسة وجلس في المكان ذاته، وكان في استقباله الأشخاص الذين رآهم السامرائي في نومه، وبثيابهم ذاتها، وحدث أيضاً أنهم جلسوا كلهم كما رآهم في منامه بالترتيب، وانسكب الماء من برتقالة كان يقشّرها والده. وقال كلمات سمعها منه في نومه. فماذا يعني؟ هل هي من عجائب الصدف؟ أم أنها لمسة من الغيب يمنحها سبحانه في قلب من يشاء من عباده؟ أم أنها خطرة من خطرات الروح كما أخبرني مفكرنا مصطفى محمود؟ أم هي الخارقية كما قال لي أستاذنا الدكتور علي الوردي؟!.
ونحن نحتاج إلى السامرائي وبركاته اللغوية كلما التبست علينا الأمور وضاقت بنا الصدور. إنه يذكّرنا بزمن أولئك الكبار: ابن جنِّي في ”خصائصه”، والزمخشري في “أساسه”، والفيروز آبادي في “قاموسه”، وأبي حيّان في “بحره المحيط”، والجرجاني في “أسرار بلاغته”.. ولهذا العالم ثوابه عند الله. وأرجو أن يكون عند الناس شيئ من هذا الثواب.. لمن يعرفون أقدار الناس