في التاريخ السياسي بشكل عام ،منذ أن ناقش افلاطون ( 427 ق.م – 347 ق.م) اطروحاته السياسية حول انواع الحكم وطريقة اختيار القيادة ،مرورا بكتاب ومفكري النظرية الإسلامية في الحكم ،إلى مفكري عصر النهضة مثل لورنزو دي ميديشي وميكافيلي، وفلاسفة القرن السابع عشر كهوبز ولوك ومنتسيكيو . حتى استقرت النظرية السياسية في الحكم القائمة على وجوب أن يكون الحكم قائما على الارادة الشعبية المتمثلة باللديمقراطية والانتخابات.
وطيلة تلك المدة منذ اول شروع في الرجوع إلى الشعب بشكل حر لم يعتلي سدة الحكم بشكل ديمقراطي وعبر اجراءات بعيدة عن الضغط والاملائات وفقا للنظرية السياسية الحديثة الا العدد القليل جدا مع الأشخاص ممن نأوا بانفسهم عن السلطة وامتيازاتها وملذاتها.
الأمام علي عليه السلام الذي قيل فيه (لقد زان الخلافة ولم تزنه) ولا أعلم مثلا آخر في عالمنا الا في طريقة اختيار السيد علي الخامنئي عام 1989 كقائدا للثورة الإسلامية بعد رحيل الإمام الخميني قدس سره .
النقاش في هذا الموضوع بعيد عن تأييد هذا النموذج او الاصطفاف ضده من منطلقات طائفية.
التجربة في اختيار أعلى سلطة في إيران تمنح المختصين في العلوم السياسية مجالا كبيرا للدراسة والنقد والتحليل والخروج بآراء أكاديمية حول النظرية السياسية الإسلامية في تسمية المرشحين والرجوع إلى الامة في تنصيبهم. ولعل إيران هي النموذج الإسلامي الوحيد في كل العالم الذي طبق هذه النظرية .
ورغم وجود (57) دولة إسلامية، من بينها (22) دولة عربية ،ضمن (193) دولة في العالم ورغم اختلاف وتعدد انواع الحكم فيها كالليبرالية والاشتراكية والشيوعية ونظام الحمعية وغيرها ،ورغم أن 99% من تلك الدول ترفع شعار الديمقراطية وتأخذ بالانتخابات طريقا وحيدا لتشكيل مؤسساتها، ألا أن جميع تلك النماذج لم تصل إلى مرحلة الكمال في الرجوع إلى الامة، ودائما ما يشوب عمليات الانتخابات فيها الكثير من العيوب والانتهاكات ،كالاعتماد على المال السياسي ،او الدعم الخارجي، او تشويه صورة المنافسين او التزوير او التلاعب بالرأي العام وغيره من عمليات التزوير ،فضلا عن السعي الحثيث للمرشحين وصرفهم الاموال الطائلة للوصول إلى الحكم. ولم ينقل لنا التأريخ أن السلطة عرضت على احد منهم ورفضها، باستثناء من ذكرنا أعلاه.
في الفكر السياسي موارد عدة يتناقلها اهل الاختصاص في النموذج الامثل لكي تكون الامة مصدرا للسلطات واقعا وليس نظريا ،وان تحتكم العملية السياسية إلى إجراءات عادلة في عملها . ولكن لا احد من المختصين يستطيع أن يثبت ان مثل هذا التطبيق حصل على أرض الواقع بشكله المثالي الا في تجربتين، سنة 35 هـ (656 م) في المدينة المنورة عندما بايع المسلمين الاوائل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ،وفي 1989 م عندما اختير وبويع السيد علي الخامنئي قائدا ومرشدا للثورة .
في دولنا الإسلامية، فلا مكان للأمة في اختيار الحكام بشكل واقعي ،فأما أن يكون الحكم وراثيا ،كما في السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان وسوريا والمغرب والاردن ،او يكون بانقلاب كمصر والسودان، او بأملائات خارجية الجزائر وتونس وليبيا، او بثورات شعبية وأعمال عنف كما في اليمن . او بمؤثرات خارجية لا تمنح الكثير من حرية الاختيار كما في لبنان والعراق .
في هذا الفيديو تطبيق عملي يستحق الدراسة بعيدا عن اي خلفيات دينية او مذهبي، وبعيدا عن اي احكام مسبقة .
ما جرى في جلسة مجلس الخبراء لم تصل اليه كل النماذج والنظريات الليبرالية في العالم.
فبعد رحيل الإمام الخميني في حزيران 1989 م عُقد اجتماع ل (مجلس خبراء القيادة) الذي يضم عشرات الفقهاء والمجتهدين من كافة المدن الإيرانية، لينتخب القائد الجديد للثورة الإسلامية طبقا، ً للمادة 107 من الدستور الإيراني – ففي البداية كان هناك نقاشاً حول أن تكون القيادة فردية يقودها شخص واحد ، أو قيادة شكل شورى تتكون من ثلاث أشخاص:
– الرئيس(السيد علي الخامنائي ).
– رئيس السلطة القضائية (السيداية الله السيد موسوي أردبيلي)
– رئيس مجلس الخبراء ( الحاج الميرزا اية الله الشيخ علي مشكيني).

ولكن لم تصوّت أكثرية أعضاء المجلس للقيادة الجماعية، وتم التصويت للقيادة الفردية، فتحوّل النقاش بعد ذلك إلى إيجاد المصداق الحقيقي للقيادة الفردية.

تداول المجتمعين من الفقهاء عدة روايات سمعوها من الإمام الراحل حول جدارة السيد الخامنئي للقيادة. فضلا عن نقاش فقهي حول دلالات القيادة وشروطها ، لكن كان السيد الخامنائي المرشح أعترض على ترشيحه ،وقال بأنه غير موهل لشروط القيادة لانه لم يكن مرجعا دينيا في ذلك الوقت.
مجلس الخبراء من ناحيته مارس أقصى درجات الاحتكام إلى الحوار والاستناد إلى الادلة العقلية والنقلية لإجبار السيد الخامنائي على قبول ترشيحه كمرشد أعلى وقائدا للثورة الاسلامية .
وانتهى النقاش بإنتخابه قائدا “مؤقتا” خلفا للأمام الراحل . وبعد حوالي الشهرين جرى استفتاء مراجعة الدستور في إيران وقد وافق عليها 97.6٪ من الناخبين.
فجدد مجلس خبراء القيادة في جلسته الثانية في آب 1989 انتخاب السيد علي الخامنائي لمنصب ولي الفقيه بعد حصوله على موافقة 60 من 64 حضروا الاجتماع.
وبذلك أصبح انتخاب واختيار السيد الخامنائي من قبل اهل الحل والعقد(مجلس الخبراء ) ومن قبل الامة أيضا كحالة من حالات “البيعة ” ، بصفته ولياً لأمر المسلمين. فبايعه المسؤولين الكبار في الجمهورية الإسلامية والمؤسسات المختلفة، وأفراد عائلة الامام الخميني، ومراجع التقليد وعلماء الدين بما في ذلك الشيخ محمد علي الآراكي، ومحمد رضا الموسوي الكلبيكاني، والشيخ هاشم الآملي وشهاب الدين المرعشي النجفي. كما بايعته الجامعة الكبرى في قم وإدارة الحوزة أساتذتها، وكذلك الحوزات والتجمعات العلمية في مشهد وأصفهان وطهران وغيرها.

كما بعث السيد أحمد الخميني بعد ساعات من انتخابه للقيادة برقية تبريك للسيد الخامنائي يقول فيها: «لقد ذكر الإمام الخميني اسمك مراراً بوصفك مجتهداً صالحاً لقيادة الحكومة. إنّا وكل أفراد العائلة أتقدّم بالشكر الجزيل للسادة العلماء أعضاء مجلس الخبراء المحترمين لانتخابهم المسدد له، وإنني اعتبر أوامر الولي الفقيه واجبة التنفيذ عليّ.»

 

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *