من البديهي ، حين يُجرب المرء بما يطرأ على المجتمع من متغيرات فجة وارتداديه مقرفة ، مصطنعة ، يراها بعيدة عن \ الخاطر \ عذرية الحياة \ براءة المخيلة ، يتوقف حينها ، لينزوي في ركن هادئ كي يسترجع ذاتهِ المقموعة \ المقهورة \ المهمشة من اثر ذلك ، تراهُ يفضي صوب الخلوة بعيداً ، هذهِ المراجعة تتطلب مقاضاة النفس ساعتها . قد أجدني ومن خلال متابعتي لنصوص الشاعر صلاح التي أخذت منحى صوب الأنسنة والأقلمة والتدجين ، يوظف حياتهِ اليومية شعراً يستنبطهُ من واقعهِ المخيالي ، فالمشاهدات جعلتهُ متمرداً على واقعهِ الراهن بتذوقهِ رؤىً أبعد ما تكون عن ذهنية ذاك المجتمع ، فكان مالهُ من ردم الهوة وإزاحة الثقل عن كاهلهِ ذهنياً ولجأ إلى أنسنة المخلوقات الأخرى وأقلمتها للتقبل ” النفس ” وما سِواها ، ويدجن طبائع شرسة ، اتكأ على بساطة وخفة مفردات لينة يطاوعها حسب قاموسه الحياتي والذي ابتكره . يمكن أن نرى ذلك جلياً عندما نسعى إلى اختراق أياً من نصوصهِ ، لا بد أن نجابه مفردة عصية تحيل بيننا وبين مفهومنا لهُ ، ربما هي مفتاح سحري لتشكيلة قالبهِ – ترتيبه – لغتهِ .. هذهِ التي لا بديل لها ؛ هي محرك النص من حيث الربط التركيبي على مستوى العمق وكأنهُ يتعاطى التوليدية في تركيب ظاهري وآخر من قبل جملة ” الإشعاع – التوهج ” ربما هي الضربة وحسب النقاد القدامى : ” خير الشعر من أعطاك معناهُ إلا بعد مطاولة ” ومن غرائبيات عنونة نصوصه كما في : نملة في جنازة – دِببة في مأتم – غيمة في جزيرة أسناني – أتناول عشائي مع حصان – اصطياد عميان إلى سينما . لنأخذ مثلاً :
” ضرير يغني في طائرة ” :
……………………………….
إنا اليوم بلا هموم
رتّبت البيت ، وضعتٍ باقة زهرٍ في غرفة الضيوف
ولا أتوقعُ زيارةً من احد .
أرى من شباكي ريحاً تنسحب من بلدتي
دافعةً أمامها ظلالَ بيوت
ــــــ من مفارقاتهِ التهويمية ذلك العنوان الذي يفضي لعدة أسئلة حيرى ، وحين تسترسل فيها تُصاب بدوار من دادائية وسرياية ، هذهِ العتبات القرائية التي أنسنَ رؤاها وأقلمة كائناتها ودجنة شخوصها في توليف متقن لاكتمال حياتي لها كي تساير أطباع العموم ربما . الأماكن القصية أضفت لهُ الإشتغال في المهجور والهامشي والعشوائي ، لكن بجدارة معرفية متقنة ، يوظف الإستحالة ويتمكن من مطاوعتها ، يفتح المقطع الذي يستهلهُ ثم يغلقهُ بضربة نهائية يتحسسها المتلقي وكأنها – مطبة هوائية بجو الطائرة – تأخذ بخفقة قلب إضافية . يلاحظ من دفقة الحس الحيواني وطبع المخلوقات الهامشية والأشياء المهملة وحركاتهم الاستعراضية من فن وغناء ورقص وصياح وزعيق وهذرمة المركونات في شعره.
سأجلس , بعد قليل , عند شجرة توت
لا تُثمر منذ سنوات ولا اعرف السبب
مع أني أفتت رغيفاً , كل ظهيرة , على أعشاشها الفارغة
وأبعثر بعض ذكرياتي حولها
وأخريات أمام شاطئ مهجور
أرى سلاحف بين صخورٍ
انحني , احملها إلى البحر
في الطريق إلى بيتي , أصادف سراباً اجهلُ يذهبُ إلى أين . .
ـــــ بهذهِ الأدوات التي يتسلح بها هي خير عًدتهِ التي يقاوم بها الملل واليأس والقنوط الحياتي ،هي التي منحتهُ فسحة الحرية التي يمتلكها في إشتغالهِ اليومي ” التوظيف ” ذلك القدر الكافي الذي هزم القهر – الظلم –أوامر ” فورمنات ” تمرد عليها فكان لهُ هذهِ الأريحية والمزاج الرائق ، فجُل أدواتهِ بسيطة لا هي با لبهرجة الشعرية ولا الصبغة المتصنعة المراد لها ، بل عفوية يتركهها على هداها وفق قاموسه اليومي الذي إبتكرهُ ، النص لديهِ إيحائي ، عضوي ، يبقيهِ على سليقتهِ دونما تصحيح ” اللاشعور ” المبكر دون مراجعة وينمو كما يريدهُ ، هي اللمعة الأولى في الذهنية . يزاوج في تفاعله مع أدواتهِ ويزجها في النص ، أي يوائم – يلائم – الفضاء والمفردة – عناصرهِ اللغوية وكائناتهِ الهامشية في نصهِ اللغوي .
وأخريات أمام شاطئ مهجور
أرى سلاحف بين صخورٍ
انحني , احملها إلى البحر
في الطريق إلى بيتي , أصادف سراباً اجهلُ يذهبُ إلى أين. .
ـــــ لذا يحدث بعض التنافر بين روحيهما ، العنصر + المكون = الأداة الفاعلة ، الصورة تبقى ثابتة بلا حركة ، وقلما نعثر على صورة متحركة في إلتقاطاتهِ الفنية ، لأن أبطال منتجهِ = عناصر من الجنس الهامشي – المهمل لا تأثير لهُ في حركتهم الثقيلة ، بل رغم مطاوعتهِ لهم ، لم يكترث بما يصار من عفوية الطبع ، تركهم على هداهم مخيرين الطبع والطباع .
كنتُ ، قبل ساعات، في عيادة طبيبي
لسبب لا أتذكره الآن
هناك فوجئتُ بهاملت ينتحبُ أمام ممرضة
جلستُ ، تصورتني في طائرةٍ يغني فيها ضريرٌ
بصوتٍ جميل .
هذهِ المفارقات جعلتهُ ماركة مسجلة باسمه ، رسخت لدينا بأنهُ هو ” صلاح ” صانع النص ، الشرس ، الأليف ، لا انفكاك منهُ ، فضاءاتهِ وعوالمهِ صاغها بإمكانية متمرس يجيد صناعة الحياة الجديدة ، وكما يحلو لمريديه أن يحتفوا بهِ ، كونهِ ينتمي للحياة بكل أزاهيرها وبهرجها ، يلاحظ طغيان ” الأنا ” في نصوصهِ كونهُ الراوي ، والبطل ، والقناص ، والحاكي . يوظف الاستحالة ويتمكن من مطاوعتها ليسخرها في خدمة المقطع مهما تسربل في غرائبية أو فنتازية ، يفتح المقطع الذي يستهلهُ ثم يغلقهُ بضربة من ‘نتاجهِ الحياتي ، كأن تكون المعادلة متوازنة \ استهلال يساوي النهاية.المفردات بتحقيقها الناصعة تعبر عن معاني راسخة وتطبيقات \ متوازيات \ تشكيلات – يرصعها ويحيلها إلى اصلها الثابت يتعامل على المحسوسات بوصفها أدوات تطاوع رؤاهُ ، لذا يأخذها من عينيات منها ويرتب عليها حسب ما تملئ عليهِ ” اللحظة ” إن النمذجة الذهنية لديهِ تشكل دالة محورية ينسج منها خيالاتهِ ، لما يمتلك من خبرة معرفية وذاتية للأشياء التي تحيطهُ وهو الغائص بأعماق التيهِ الرائع أبدا .