بقلم | علاء حمد
التطرق إلى النصّ الشعري والميول الفلسفية التي ندخل عادة في دهاليزها، ماهي إلا أبعادا من صورة فعل المتخيل مع نسق من العلاقات ترتكز في بؤرتها الوظيفة الجمالية التي تضطلع بها الأبنية؛ والتي نؤكد من خلالها على قوة فاعلة من التأثيرات، فليست ذاتية المتخيل، هي عندما تسعى لإيجاد صورها الخيالية من تعارض، ولكن يعمل فعل المتخيل على شبكة من المبنى النصّي، ويكون فعل المتخيل معبرا مهما لتلك الصور التصويرية منها الاستعارية والتشبيهية، والحلمية والتي كانت تنتظر، لأنّها وليدة اللحظة في بنية النص الشعري، ولكن في نفس الوقت تشغلنا صورة المعاينة. فصورة المعاينة هي تصورات المتخيل والذهاب مع صوره إلى الإيحاء تارة وإلى منظومة الدهشة تارة أخرى، وهذه البنى تتركز على أنواعية الخيال والأريحية النفسية وخروج الصور من صور ذهنية مجردة إلى صور شعرية عاملة، ولا تفوتنا بنية اللغة الفلسفية في تطعيم التصوير الذهني للصور المجردة.
لايظهر القناع الفعلي في حالة تواجد التصوير الذاتي في النصّ الشعري، وذلك لأسباب متأرجحة، ومنها تأرجح إيقاع الأنا مثلا في حالة البحث عن الذات، خارج الذات العادية، مما تؤدي إلى قناع ظاهري في ظاهرية المتخيل؛ فيصبح الخيال مظهرا سحريا يقودنا إلى جمل سحرية، ولكن عندما يعبر الباث من الحالة الجامدة إلى الحالة النشيطة؛ يكون قد هيأ الفعل الذاتي للتخييل، وبدون ذلك يبقى جامدا، خارج الوعي الذاتي؛ لذلك ومن خلال بعض المشاهد وبواسطة الأنا نلمس تأرجحها بين الذات العادية والذات الحقيقية ( العاملة عادة )، وهذا التأرجح لايفسد النص بشكله الظاهري، ولكن تتأرجح المعاني من خلال الانتقالات من ذات إلى أخرى، ومن حالة الركود إلى حالة تنشيط الذات، وخصوصا أن الشاعر جلّ مايسعى إليه هو الخروج من حسيته اليومية المعتادة، لذلك ( وقلنا سابقا ) بأن هذه الحسية ستترك آثارا، وهذه الآثار لها مؤثراتها عندما ينتمي الشاعر إلى ذات جديدة، فتظهر التأرجحات عادة، أو تختفي بواسطة الجمل التصويرية وتذوب.
الذات التخييلية والتي تشتغل ضمن مساحتها الجديدة والواسعة، لاتتخلى عن حضور الغائب والحاضر أيضا لان علاقة ( الأنا ) علاقة ديمومة مع الغائب، ( إلا في السير الذاتية )، ولكننا نحن في المنطقة الشعرية والبحث عن اللامألوف. فتطرح حالتها الحاضرة أحيانا وحالتها الغائبة أيضا في بعض الأحيان. وهي مفكرة آنية حتى اذا انساقت إلى خيال ماضوي، وفي حالات الشرود أيضا فلها خيالها ( الفوضوي ) ولها جنونها ( الخلاق ) ولكن شرودها له ثلاثة مخارج :
إما ماضوية ( فلاش باكية ) وإما آنية آنية، أو العبور إلى عالم آخر، وإزالة العالم الذي هي فيه. لذلك اشتغالات الذات عديدة، وهي المفكرة ( الداخلية ) في حالة الخيال لدى المتخيل، وفي حالة الشرود عند التفكر وزراعة الألغام التي تؤدي إلى الشعرية. زراعة الالغام تتركها الذات عادة قبل الانتقال إلى الجنون الخلاق، وهو العالم الآخر ( سيكون ماوراء الواقع، حيث أنه مع البعد السريالي ) أو التماشي مع الرمزية المعقولة أو الذهاب إلى الغموض والإبهام وهنا مكونات علائقية تحدث مابين الموقع الخيالي الرمزي والموقع الخيالي السريالي.
” أما الخيال فيتجاوز باستمرار مظاهر الأشياء وعلاقاتها الطبيعية الواضحة ليكشف أسرارها المكنونة التي لايصل إليها النظر العقلي والإدراك الحسي، كما أنه لايتعامل مع اللغة بأعتبارها أداة للتواصل المباشر، ولا يقف عند الدلالات المعجمية المحدودة للكلمات والعبارات، وإنما يبحث عن المعنى المجازي الخصب والمتجدد الذي ينطوي على عوالم إيحائية لامتناهية، ويروم بذلك أن يفجّر الطاقات الشاعرية المكنونة، ويطلق عنان التأملات الحالمة “( 1 )..الانتقالات ضرورية عندما نذهب إلى بعض الأدوار ومنها دور اللامألوف، وهو عالم آخر، والخروج من المنطقة الريفية اليومية التقليدية، فعندما نميل إلى الجنون، وهنا لانقصد بها الهلوسة الجنونية، ولكن أننا في غرف الجنون الخلاق، لخلق قيمة شاعرية تؤدي إلى اللامألوف، أو نعتني باللامحدود.
تشتغل الحواس وتتجمع كي تجمع بعض من جزئيات الصور لتتعين في الذهنية؛ فهناك الصور السمعية والبصرية والذهنية وحتى الملموسة والذوقية، كلها حواس مع اشتغالات متدفقة في المخيلة لمكونات تصويرية، تتزاوج في آن معا لبث البعد التصويري ومن هنا تنبع الصور حالة المتخيل للخيال الذي يربط هذه الحالات أيضا بنوافذ عديدة ومنها الخيال الرمزي والخيال اللاواقعي.
” إنّ مجال الرمزية المفضل يكون: اللامحسوس بشتى أشكاله: الشكل اللاواعي والماوراء الطبيعي والفوطبيعي واللاواقعي. إنّ ” هذه الأشياء الغائبة والتي يستحيل إدراكها ” ستكون حسب التعريف، وبطريقة ممتازة، الموضوعات نفسها للميتافيزيقا وللفن وللدين وللسحر: سببا أول، مطافا أخيرا، ” نهائية دون نهاية ” ، نفسا، أرواحا، آلهة، الخ.. ” ( 2 ). لا نستطع أن نعتبره تعريفا ( حسب ماذكر ) ولكن نتماشى مع مدخلية الخيال الرمزي؛ فاللوحة الشعرية تنفذ إلى الصورة، وعادة اللوحة غير ثابتة، والصورة مجردة أيضا، لذلك ومن خلال المبنى الهندسي للنص، تخرج اللوحة مافوق طبيعية أو يتم تثبيت الصورة اللامألوفة، ومن الممكن جدا أن تتأرجح اللوحة بالمأخذ الحسّي، بينما الصورة قد دخلت مع حسية جديدة بحثَ عنها الشاعر لتستقر ( ربما هي لحظة كتابة القصيدة ) وكم لحظة نحتاج لبرمجة مونتاج القصيدة بصور شعرية متواصلة ؟!
لو دخلنا إلى محور النص التتابعي، فسوف نلتقي مع الجمل وعلاقاتها مع بعضها لتكوينات مشهدية، فالنصّ الشعري ومن خلال هذه العلاقات يظهر لنا الحالة الخطية في القول، وهنا القول الفلسفي العميق تارة، والظاهري تارة أخرى، فالخيال مع عمقه يشكل حالة استثنائية، لأنّه ليس كأي خيال نرسمه في النصّ، وإنما العبور مع الجمل إلى عالم آخر وهذا العالم يحمل بكل مالدى الباث من ذاتية محكمة، ذاتية جديدة غير مخرّجة إلى الخارج، يتم توظيفها من جديد كأننا أمام طفل يبكي لايعرف من العالم شيئا، وهكذا النصّ ببراءته المحكمة، وعند الانفتاح تخرج منه الصور متدفقة بعنف خيالي إلى المتلقي. لذلك وعند المشاهد النصية للنص الشعري، تظهر لنا المداخل ( والتي سميتها بالمداخل، نظرا لعتمتها أو وضوحها ). ومنها المداخل السود؛ والتي لانرى منها سوى المعاني المدغمة، المعاني المحمولة برمزية غير معقولة وخارج التوضيح، وتحتاج إلى المزيد من الوضوح والاعتناء بالمقاصد، بل والتعمق بتلك المداخل والمطالع، لكي نرى ما سربته إلى دواخلها. المداخل السود في النصّ الشعري تسرب الأحلام والكوابيس وبعضا من جزئيات الفوضى وتلك الهلوسة التي لاتنفعنا بشكلها المطلق، ولكن في نفس الوقت تعتني بالمشهد الرمزي والتكتلات الدلالية، فيشوبها الغموض والإبهام بشكل مفرط، وبين المخاطِب والمخاطـَب، ينسجم الحوار ولكن يقضي على الوضوح المنتظم. ولو عبرنا مع المداخل السود في النصّ الشعري فسوف نصطدم خارج المفاهيم المنتظمة ( وهنا لانعني الهلوسة المفرطة فقط ) وكذلك الجنون المفرط، ونبتعد عن تسليط المدلول، فالدلالات هي التي تتراكم عادة، لذلك هناك ثقافة خاصة للدال والمدلول بواسطة الدليل اللغوي.
أما المداخل البيض والتي تظهر في النصّ الشعري ( نمنح هذه المصطلحات خصوصية النصّ في المنظور التخييلي الذي يقودنا إلى عوالم عديدة ). فتكون الجمل النصية واضحة ضمن المشهد الشعري، وتعتمد هذه المداخل على سلطتها التكوينية، فالمدلول يتشكل من عناصر دلالية ( تسمى السمات الدلالية، حسب مفهوم علم الدلالة ) فتكون فاعلة وغير فاعلة؛ أما السلطة التكوينية والتي تبعث بروح النصّ الشعري؛ الصور الشعرية وتسلطها على المشاهد، وكذلك الجزئيات والتي لها فعالية إنتاجية في النصّ عادة. فالحالة التصورية في المداخل البيض تقودنا إلى معرفة تواجد النقائض مثلا، وكذلك الكشف عن المفهوم من التصورات، و تقودنا إلى المعاني، ولا نستغرب تواجد معنى المعنى ضمن القول الشعري، فالحالة التي ننقاد إليها حالة تصورية ( ربما تكون كمالية ) أيضا، وذلك لمؤثرات المشهد الشعري، وتواجد الصور التي تتدفق علينا برمزية معقولة، فتكشف المفاهيم والمعاني. ومن هنا نذهب إلى المفاهيم التداولية ( 3 )؛ ( فالعنونة تشير لنا بفلسفة النص – الخيال والمتخيل ).
” الدلالة الرمزية، إذاً، مشكّـلة بحيث لانرى منها إلا الدلالة الثانوية عن طريق الدلالة الأولية، حيث تكون هذه الدلالة الثانوية الوسيلة الوحيدة للدنو من فائض المعنى. والدلالة الأولية هي التي تعطي الدلالة الثانوية بصفتها معنى المعنى. وهذه الصفة هي التي تميز بين الرمز والأمثولة. فالأمثولة إجراء بلاغي يمكن اقصاؤه حال انتهائه من مهمته. ( 4 )”..
سهولة الجملة الشعرية تجعلنا أن نضع أصابعنا بكل بساطة عليها، وهي بذاتها أيضا سهولة تواصلها وتوليدها لجمل أخرى لمكونات امتدادية لها، حيث تظهر لنا المعاني الظاهرة والمعاني المخفية ( معنى المعنى )، فجاهزية اللغة وآليات النصّ الأخرى تجعلنا أكثر اقترابا من النصّ الشعري ومؤثراته؛ وخصوصا أنّني أشرت إلى المداخل البيض، لفصلها عما: ( نستطيع أن نسميها القصيدة السوداء أيضا ) وهي حالة من حالات المداخل السود حيث من الصعوبة جدا الإمساك بالمعاني لظلمة المفردات وعتمة المعاني التي تصيبها وكذلك لتثقيل الرموز والتي هنا نستطيع من خلالها ترجمة: ( المعنى بقلب الشاعر )، وهي حالات استثنائية وظهور مثل هذه القصائد في عصرنا الراهن.
لو قسمنا النصّ الشعري بتقاطع رؤيوي لحصلنا على: المظهر المتواصل + الأحلام المتنقلة + الواقع الغالب + الوقائع المغلوبة = هذا يعني أن ننقاد إلى التصور؛ المستوى التصويري في ( النظرية التصورية ). فالمظهر المتواصل يسحبنا إلى ظاهرية النصّ وجماليته، وهو يعتمد اللامألوف في تقصّي الواقع الغالب. بينما الأحلام المتنقلة شغلت الزوايا المغلوبة، وعانقتها بدفء، لذلك فقد اختفت المشاهد المكررة، وكذلك المفردات، إلا لضرورة تكرارها من أجل المعاني. ” إن الصور الشعرية ذات منحى استشرافي، لأنّها تنفتح دائما على الآتي والممكن وتنشد إلى كلّ ماهو جديد ومتجدد، ومن ثمّ، فجوهرها الجمالي يتعارض كليا مع عمليات النسخ والتكرار، كما أن لاعلاقة لعوالمها ومواضيعها بالمعطيات الإدراكية للواقع العيني في تمظهراتها القبلية أو الآنية، لأنّها لو كانت كذلك لأصبحت مجرد صدى للأشياء والظواهر المادية، في حين أنها تسعى إلى أن تكون في آن واحد، الصوت والصدى، الواقع والمثال ( 5 )”.
تحتفظ المخيلة عادة ببقايا العناصر الإدراكية، وكما تحتفظ بما تتركه الحسية القديمة وكذلك الرؤية العينية، وهي اشتغالات تعتبر آنية عند خروجها من الترسبات القديمة، فعملية الخيال تقضي على التفكر في عملية الخلق الشعري، فالشاعر خارج مشاعره المباشرة، وهو يمتهن اللامباشرة، ليخرج من المعقول ويذهب إلى اللامعقول. وتماشيا مع الواقع الخيالي للنصّ الشعري، حيث يعتبر عنصر الخيال بتنقلاته العفوية والقصدية من الأهمية في منظومة الأدوات الشعرية للنصّ، لذلك لو شرّحنا ضمن منظور واقعي للخيال فسوف نذهب معه إلى ثلاثة منافذ:
الأول: الواقع التشكيلي؛ حيث يضم البنيات الأساسية للصور الشعرية والحقول الدلالية.
الثاني: الواقع الوظيفي؛ حيث يكون للذات الفاعلة، القسم الأوفر والتفاعل الجمالي مع المتخيل ومتلقيه ومن خلال هذين المستويين تتم عملية المزج والانسجام بينهما.
الثالث: الواقع الفعلي الحركي؛ حيث أن النصّ الشعري ليس جامدا ( وخصوصا في عصرنا الحديث ) فله حركته الفعالة وتعديه إلى أنواعية النصوص الشعرية، وتعتبر هذه الخاصية منفصلة عن المنفذين السابقين، ولكن هناك علاقة كمنظور خارجي مع الواقع التشكيلي والواقع الوظيفي كاتحاد بينهما، لجعلهما يصبان في مسلك واحد.
” النصّ من حيث العلامات دالة شفافة تغيب أمام النظر، فيخترقها مباشرة إلى مدلوله أو مرجعه، وهو مايطلق عليه ” عالم الخطاب ” ” L,univers du discours “؛ وهو جملة من الأحداث أو الوقائع تؤديها عدد من الذوات تجري في الزمن والفضاء؛ وهي نفسها تخضع في جريانها للمدى والتتابع والترتب؛ أي أنّ ذلك العالم مرتب كذلك؛ إذ أنّ النصّ مثل العالم الذي ينقله أو يصوّره يتكون من عناصر تربط بينها علاقات؛ هذه العلاقات تؤدى بأدوات الربط ( 6 )”.
الجمالية والكشف الذاتي
تكون الذات عادة أسيرة العالم الذي يعوم حول الباث، وهي منفتحة بدرجات كبيرة ومساحة واسعة، فالباث المالك لهذه الذات لايشعر بأنّه ملكه، بل هي مسخّرة للتعبير والسفر خارج حدودها؛ فالشعرية وتقنيتها ليست محصورة بشكلها الأناي، وإنما هي انعكاس فعال بين الذات المالكة والجماعة التي حولها أو الطقوس المؤلمة والأوجاع المنتشرة في العالم. فجمالية الذات تظهر بين تكوينات التموضع النصّي للنصّ الشعري؛ وتسخير الذات خارج الأنا المخصخصة للذاتية الشخصية، فهنا تصبح الذات ذات تمليك خاص ولكنها لاتميل إلى الشاعر بقدر ميلها إلى الآخر من جهة وإلى عكس الوقائع والارتباطات الموضوعية مع الآخرين من جهة أخرى. لذلك فمهمة الذات التوظيف الآني بقدر كبير وليس الماضوي، وإن بحثت في الماضي فهي تبحث الآن بكلّ تأكيد. فعندما يكون النصّ الشعري خارج التفكّر، وهو في مناطق الـ فلاش باكية، تظهر الحالات الماضوية بشكلها الآني، لأنّ الذات تبحث عن الآن، وهي آنية قبل كل شيء، ولكن بترتيب زمني، ترتيب ذا علاقة مع الأفعال وتفاعلها، وعندما يزور الشاعر بعض الشرود الذهني، يعكس لنا حالته الشعرية بتواصلٍ خلاق، فيقودنا من الماضي إلى الحاضر.
لاتبحث الذات عن المعاني العادية بل تسافر إلى أبعاد أخرى؛ أبعاد ليست قريبة ومطروحة بالشكل اليومي المعتاد، بل المعاني غير المعروفة، والكلمات الغريبة غير المستهلكة؛ وقد عمل السرياليون بهذا الاتجاه، وها هو رامبو مثلا: ” ليس الشعر إذن، في نظر رامبو، ولا في نظر تلامذته السرياليين، طريقة معرفة بالمعنى العادي للمعرفة. بل هو الطريق التي بقيت لنا كي نتعرف إلى الأساطير الإنسانية بوجوهها التي لاتحصى. وما دامت الأساطير شيئا غير معروف فإنّ الكلمات التي تحملها لايمكن أن تعرف كذلك ( 7 ) “.
عند انتقال الذات العادية إلى ذات شاعرة من الطبيعي أن تنتقل معها الحسية الجمالية، أو توجد منافذ فعالة تؤدي إلى العنصر الجمالي، فالذات الشاعرة تحمل من منظومة الدهشة بما لايقارن مع غيرها، ومنظومة الدهشة هي الجمالية بذاتها، إذن يصبح لدينا بالإضافة إلى البعد الذاتي الجمالي، البعد الجمالي الذاتي؛ من خلال تموضع الذات الجديدة والتي دائما يتمّ البحث عنها، وهنا تبدأ العلاقات مابين المتخيل ” الذاتي ” والذات الشاعرة ( أو العاملة ) الجديدة.
إنّ السعي إلى الإيمان الذاتي والبحث عن المعاني من خلالها ليس إلا بداية للحسية الجديدة التي تعلق الباث بها وراح مع التنقيب عن مفهومية الآخر والتقرب من الموضوعاتية المطروحة على مستوى الوعي اللغوي في النصّ الشعري، ومستوى الوعي الذاتي في التأسيس الجديد. فهناك المستوى الداخلي للذات والمستوى الخارجي؛ ففي المستوى الداخلي هناك الاستقلالية في اتخاذ قرار الـ ” أنا ” حيث تميل هذه الاستقلالية إلى معرفة الآخر من خلالها والولوج إلى تمثله من خلال الكلمة والعبارة في النصّ الشعري، وهذا مايحدث كثيرا حيث ترتد الـ ” أنا ” من المستوى الداخلي إلى المستوى الداخلي عند التفكير بالآخر واتخاذه كمصدر مهم في تمثيل أوجاعه أو محيطه أينما كان، فهو متآخ مع دواخل الشاعر، وهناك الكثير من المشاهد الشعرية الواضحة تبين هذا التحليق في النصّ الشعري. وأما المستوى الثاني فهو المستوى الخارجي، فهنا يتمّ نقل الحدث الخارجي بواسطة التصوير العيني ” البصرية ” والتي تشتغل من خلال الأنا المنفصلة عن الآخرين، وترسم مساحة جميلة بين المساحة الداخلية والمساحة الخارجية.
المشهد الشعري، لاشعوري تصويري، وعبارة عن ديناميكية خلاقة، حيث نذهب إلى اللامألوف بواسطة الجنون الخلاق، الذي يدفعنا أكثر وأكثر نحو الحرية وحرية اللاشعور. فأسبقية التركيب الرمزي هو كل حالة تركيبية رمزية على أساس تفكيري، وعلى حسية متجددة، مما تدعونا إلى حالة من تأصيل خيالي، وهناك دعوة تموضعية ضمن المنظور الرمزي؛ وهذه الدعوة تدفعنا أكثر ونحن في غرفة الخيال نحو التأسيس والخلق الشعري. ومن هنا ندخل الى طبيعة المرء السيكولوجية، والمحتاجة الى نقاط من الانطلاق نحو الذات العاملة من جهة (حيث تشكل لدينا طبيعة شعرية ضمن حسيّة جديدة ) والمنظور الخارجي من جهة أخرى، والذي تديره العين ضمن التفكر الجديد. وهذا الدوران جعلنا ذو تبنّي لمواقف جديدة، فالرؤية تلتقط الجديد ولا حاجة لها بالأشياء المُلتقطة، فربما هي مترسبة في الذهنية، ويتم تحريكها من خلال رؤية خيالية داخلية جديدة، فتدفعنا إلى خيال جديد. ” الصورة عند الرمزيين إفراز خيالي متوتر يجمع بين الانكشاف والتحجب، وبين الكيف الحسي للصور والدلالة الكلية المجردة، بين النسق المثالي الذي يحدده الخيال، والأساس المادي للتجربة وهو الذي تبدأ منه الصور ( 8 )”. وهذا مايقودنا إلى الغور البعيد نحو اللاشعور، والاعتناء بالمنطقتين الداخلية: البعد الحدسي، والخارجية مع البعد الخيالي؛ فالمنطقة الداخلية الذاتية تعتني بالاثر العميق، والمنطقة الخارجية تقودنا إلى رؤى خارجية لالتقاط الممكن منها ضمن المنظومة الخيالية.
نذهب وعلاقة الحالة الذاتية مع الحالتين النفسية والفكرية، وهي مكونات لصيرورة غير منتهية في الشعر الحديث، وقد ذهب السرياليون بقوة أكبر نحو الأشياء، فالعالم يعوم من حولنا يعوم ونحن ننظر إليه نظرات غارقة، ومن خلال هذه النظرات الغارقة ننزل إلى قاع البحر ( ماهية الأشياء وما حولها ) فكلّ شيء من حولنا، قد تكون هذه الاشياء تحمل معاني تافهة، وهي ليست تمثيلية قصوى، ولكنّها مهمة، فلا ينظر إليها كلّ مدقق، فالمسافر الذي يبحث عن غربة، قد يراه بعضنا موضوعا تافها، ولكنّه مهما، فقد ازداد العالم من حولنا معاناة جديدة لرجل من طراز جديد؛ أقول من طراز جديد لأنّه بحث في ذاته، واستجابت تلك الذات إلى رغبة المعاناة ورحلته الجديدة. ” الشعر هو موقف ووجهة نظر نرنو من خلالها إلى الأشياء، الشعر هو في الأشياء وفي موقفنا من الأشياء. إنّه حالة نفسية وفكرية، أسلوب ما في التعاطي مع العالم والحكم عليه وفهمه وتمثله. إلا أنّ هذه الحالة تكون مطمورة تحت ركام الحس ونفايات المنطق ولابد من تدريب الإنسان كي يستعيد تلك الحالة من جديد ( 9 ) “.
لاتقلّ ميزة المشهد الشعري عن قيمته الجمالية في التعبير اللاشعوري، فعند إحالة الذات من الداخل إلى الآخر، يكون قد تبرع بموقف كما يتبرع بزمرة دمه للآخر دون معرفة مسبقة؛ فجلّ ماتملكه المخيلة تاجها الجمالي، ليكون السلطان الأول لها وهي ترسم المعاني بشكل لغوي امتدادي لكي تطرب باب المتلقي، علما ما نزفته لايمثلها تماما، تذهب إلى بعد اقترابي في الزمنية النازفة.
في هذا الزمن الإشاري لاتحتاج الذات إلى معينات، فهي وحدة إشارية، أشارت إلى الآخر بواسطة المنظور النظري، مما استدعى استبدال الكلمات بكلمات أكثر إثارة لكي يضمن الباث براءة المشار إليه بواسطة الذات الكاشفة.
الخروج من الحسية الداخلية وإلى الحسية الخارجية، يعني أنّ هناك توظيفات جديدة مع كلّ مائدة خيالية يتم التعلق خلفها، وما تحوي تلك المائدة من ملذّات تبعث على الأريحية، وكذلك المشهد الشعري فإنّه يبعث على أريحية فكرية خارج التفكر، بل يقودنا إلى مزاج حيوي ويدفعنا إلى الشيئية خارج الأشياء. فالشاعر تزداد ألوان متعته من خلال الشيئية، لذلك لايقترب من الأشياء؛ فاللذة الجمالية، هي القيمة الذاتية والتي تدفع الشاعر إلى التمعن أكثر فأكثر والإبحار في الأشياء؛ فاللذة الانفرداية تنظر إلى الجسد بشكله الانفرادي، بينما اللذة الجماعية فهي من اللذات المشتبكة وعديدة التفردات ولايمكننا السيطرة عليها، فتتعدد من خلالها الذوات، وكلّ ذات تتعلق بلذة؛ ونبقى مع لذة التفرّد فهي الأقرب إلى الذات الشاعرة والتي تبحث عن القيمة الجمالية بين مشاهد النصوص، وتعلقها في الذائقة الشعرية.
يمثل اللاشعور قيمة، قيمة ديناميكية عند الوعي الكتابي؛ وقد ذهب فرويد مع هذه القيمة ( في العلاج الإكلينيكي )؛ فالمحتويات المكبوتة تخرج وتصبح حالة من الوعي، وهنا تمثل قيمة من اللاشعور، فتظهر لدينا حالة من المقاومة الكتابية؛ وخصوصا أننا في الشعرية؛ وهذا يعني أن تشكل قيمة من الشعرية الفائضة أيضا عند التفكر اللاشعوري في حالة المقاومة الواعية من جهة وحالة النتاجات النفسية التي تمنحنا حبّ المقاومة والديمومة الكتابية بأحضان القصائدية من جهة أخرى. فاللاشعور عند الكتابة يتمظهر عند الشعور، وهو حالة من حالات النسيان في تصويب الزمكانية، فالنتاج الثقافي والأحلام كلها ملتويات إفرازية تخرج عند اللاشعور الكتابي.
إن التقديرات الجمالية من الأعمال الخلاقة؛ فالفنان عندما يجمع أعماله وأدواته وابتكاراته ويوظفها كعمل جمالي، فهذا العمل نعتبره ذا فكرة خلاقة، فقد رأى ” هيغل ” بأن الأعمال الجمالية يجب أن تكون أعمالا محسوسة، كالتمثال والأشياء في الطبيعة الحرة وغير ذلك، ولكن يرى غيره مايخالف ذلك، فالعمل الجميل عندما يغزو التوظيفات الشعرية عن طريق المسلك القصائدي وحالة الجنون الخلاقة التي تؤدي وتنفذ إلى النصوص الجمالية فهو لايعتمد المحسوسات المباشرة؛ بالعكس فإن الشاعر قد يبحث عن حسية جديدة، حسية تميل إلى الجمالية قبل كلّ شيء واتقانها بشكلها الجديد لكي تنبت المؤثرات الجمالية وتبرق كحالة لامثيل لها.
الأعمال التي تثير الحواس من جديد هي تلك الأعمال التي تتكئ على الحالة الجمالية بأفعال تفاعلية تحرّك النصّ الشعري وتجعل منه ايقونة فعالة؛ فإنّ كلّ عضو من أعضاء الإدراك الحسّي من الممكن أن يكون مادة للعمل الجمالي.
تتحمّل اللقطة البصرية البعد الجمالي الذي نقلته بوسيلة البصر، بينما تتحمل اللقطة الحسية البعد الجمالي الذي رُسم بوسيلة الحس؛ وفي اللقطتين يتباعد المنظور الجمالي، فكلما ابتعد المنظور قلـت الأخطاء المنظورة، وكذلك من الناحية الحسية كلما تعمقت الحسية في المنظور الشعري قلت الأخطاء المنظورة وانشغلت المشاهد بحركات الأفعال والجمل ومجاوراتها التي تقودنا إلى البعد الجمالي في النصّ الشعري؛ وهكذا يمتزج الجمال بواسطة الأشياء والالفاظ لإنتاج حالة من حالات ومسالك فريدة النوع في النصّ الشعري الحديث.
…………………..
[1] – ص 115 – الخيال والمتخيل في الفلسفة والنقد الحديث – مولاي يوسف الإدريسي
2- ص 9 – 10 – الخيال الرمزي – جيلبير دوران – ترجمة : علي المصري
3- لم يعرف مفهوم التداولية إلا من خلال ارتباطه بالكثير من العلوم الأدبية كالفلسفة وعلم النفس والاتصال وعلم اللسانيات وعلم الاجتماع وغيره. وإذا أردنا أن نرجع بهذا المصطلح للبواكير الأولى فإن أوائل الذين استخدموه هو الفيلسوف الامريكي ( موريس ) سنة 1938 م، دالا على فرع من فروع علم العلامات، وأصبح لها موطئ قدم في الدراسات اللغوية في العقد السابع من القرن العشرين، بعد أن قام بتطويرها ثلاثة من فلاسفة اللغة وهم ( أوسن ، وسيرل ، وجرايس ) . – المقاربة التداولية – فرانسواز أرمينكو – ترجمة سعيد علوش ..
4- ص 97 – 98 – نظرية التأويل ، الخطاب وفائض المعنى – بول ريكور – ترجمة : سعيد الغانمي
5- ص 117 – 118 – الخيال والمتخيل – يوسف الإدريسي
6- ص 42 – 43 – نسيج النصّ – الأزهر الزنـّاد – المركز الثقافي العربي
7- ص 64 – عصر السريالية – والاس فاولي – ترجمة : خالدة سعيد – دار التكوين ، سورية
8- ص 267 – الخيال مفهوماته ووظائفه – د . عاطف جوده نصر
9-ص 234 – الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي – إيليا الحاوي – دار الثقافة ، بيروت