كان الشتاء السياسي العراقي الطويل الذي بدأ منذ شهر تشرين الاول 2021 بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة الاكثر خلافاً واختلافاً في تاريخ العراق السياسي، ومايزال حتى الان محملاً بزوابع وعواصف ورعود وامطار ثقيلة رغم حرارة الصيف التموزي الذي نقف على اعتابه.
وعلى الرغم من انقضاء جميع المُدد الدستورية والاشتراطات القانونية ونفاد الاعذار والاسباب ، ورغم الضرورة الوطنية الماسة الى التشكيل الحكومي المنقذ بعد سنتين انتقاليتين و ثورة على الاداء السياسي وعلى الفساد الاداري الذي نخر كيان الدولة و هرّأ اركانها، والاضطرار الى انتخابات برلمانية مبكرة مثقلةٍ بكثير من الازمات والتقاطعات، ماتزال آليات منظومة الحراك السياسي محكومة بحسابات المصالح والمكاسب والمطامع العمياء بعيدا عن اي اعتبار لمصلحة الوطن او شعور بالمسؤولية تجاه الشعب التائه في فوضى الصراعات والمحاصصات التي تفاقمت و تغولت حتى صارت حزبية منغلقة بل شخصية محضة.
لذلك لم تكن نتائج تلك الانتخابات حلّاً للأزمة بل كانت أزمة جديدة أكبر وأكثر تعقيداً اوصلت البلاد الى حالة الانغلاق والجمود السياسي بسبب عناد الارادات و حرب المطامع المغلّفة بالكثير من شعارات الوطنية والنزاهة والوعود الفضفاضة الكاذبة.
ولان (البيت الشيعي) السياسي هو الاكبر والاوسع كونه يمثل المكون الاكثر عددا كما هو معلوم، لذلك كان حريق الخلافات الناشب فيه اعلى نيراناً وصخباً واصعب حلولاً بالتأكيد، بِدءاً من الصراع على تسمية الكتلة الاكبر بعد ان قرر الصدريون الانفصال عن البيت الشيعي والانفراد في بيتهم (الصدري) الخاص، رافعين راية نصر مبكرة جدا بسبب نشوة الفوز ب 73 مقعداً برلمانياً، وظنوها كافية للانفراد والاستئثار الحصري برئاسة الوزراء بل بجميع مناصب التشكيل الوزاري تحت عنوان حكومة اغلبية. وهو الامر المعضل الذي جوبه برفض اغلب الشركاء السياسيين الكبار لعدم واقعيته ونشازه عن المسار الوطني والاقليمي والدولي المؤسس عبر عشرين سنة وبمعطيات ذات خصوصية وحساسية دقيقة.
في الضفة الأخرى كان هنالك المشروع السياسي الاكثر رسوخا وحكمة وخبرةً والامتن علاقة وثقة بالشعب متمثلا بتيار السيد نوري المالكي، السياسي المخضرم ورجل الدولة الاقوى بشهادة الداخل والخارج، والرئيس الاكثر خبرةً والاطول ولاية، وقبل ذلك كله المناضل المعارض الابرز والاصلب لاكثر من ثلاثين عاما ضد النظام السابق.
كانت النتائج البرلمانية التي حققها المالكي -منفردا-، وأصرّ على قولي منفردا، باهرة تحمل دلالات واضحة تؤكد ثقله السياسي والشعبي وتفوقه على جميع منافسيه، لانه حمل فوز 37 مقعداً برلمانياً على جناح اسمه وحضوره السياسي المؤثر فحسب، بينما كان الآخرون يلقون بكل زخم كياناتهم وتياراتهم واحزابهم السياسية مجتمعين ومنفردين ضده، الا انهم رغم ذلك فشلوا في الوصول الى نتائج كنتائجه.
وبدا واضحاً ان نوري المالكي هو المرشح الاهم والانسب والاوفر حظا لتسنم منصب رئاسة الوزراء وقيادة البلد في هذه المرحلة المعضلة من تاريخ العراق، لتنفيذ خطته الشجاعة في الانقاذ والنهوض والبناء بعد ان وصل البلد الى حافة الهاوية والانهيار.
وكان الشارع السياسي والاوساط الشعبية على شبه اجماع في الرأي والرغبة والتمني على عودة المالكي لقيادة البلد مستذكرين المرحلة السياسية القوية والرفاه الاقتصادي الذي عاشوه في زمنه.الا ان هذه الرغبة الشعبية والنخبية لم تكن لتمر بسلاسة وسلام في ظل صراع المصالح والمطامع والمكاسب والحصص المحتدم الذي اصبح السمة الاوضح في الشأن السياسي العراقي مع الأسف. وهو ما يفسّر الحرب السياسية الضارية ضدّه بل ربما كانت حربين وليس حربا واحدة، احداهما معلنةً مكشّرة الانياب، تقول في العلن والخفاء ان رئاسة المالكي خط احمر لن تسمح بتمريره حتى لو وقف الشعب كله خلفه، بسبب خلاف مستعصٍ منذ سنوات كان المالكي فيه على صواب بدعمٍ وتأييد شعبي حين تصدى بالقوة لحلّ معضلة امنية شديدة كان التيار يقف في طرفها الاخر، سببت شرخا في العلاقة بين الطرفين، رغم انها حدث مفصلي في اعادة الامن والامان للبلد، لم يكن امام المالكي من حل سواه.
ان عداء التيار المعلن ضد رئاسة المالكي على الرغم من ضراوته الا انه في مجمله محدود التأثير لانه يمثل وجهة نظر احادية في جو سياسي يعتبر التعددية ووجوب التشارك في الحكم ابرز السمات والاشتراطات الواجبة.
وقد سبق للسيد المالكي ان جرب التصدي لحرب هذا التيار السياسي اكثر من مرة وخرج في جميع المواجهات والمصادمات والصراعات معه منتصرا، سواء كان ذلك بالاتفاق او الاختلاف. من هنا نجد ان المالكي لم يعر الصراع مع هذا التيار كبير اهتمام على الرغم من الصخب العالي الذي جوبه به والنار الحارقة التي لوحوا بها كثيرا تهديدا بتجميد كل شئ اذا لم تنفذ اوامرهم ورغباتهم في ابعاد المالكي عن استحقاقه الرئاسي!!!
اما الحرب الثانية، فهي الاخطر والاشد والأوجع، كونها حرب الاصدقاء والحلفاء وشركاء الدرب الذين يرتدون عباءة النصح والاشارة ويخبئون اهدافهم وراء ادعاءات الحكمة والواقعية والمصلحة الوطنية (طبعا)…..!!!
وسمة هذه الحرب انها ناعمة الملمس تتسلل افاعيها بهدوء لتنفث سمومها في روح المشاريع السياسية التي تعترض مصالحها او تقطع طرق مطامعها وطموحاتها الى مزيد من السلطة والقوة والتجبر او على الاقل المجالدة من اجل البقاء على قيد الحياة السياسية بعد ان بدأت اعراض الموت السريري تظهر عليها وعلى وجودها الغائب.
ان رئاسة المالكي التي باتت قاب قوسين او ادنى في هذه المرحلة ستكون وبالاً اكيداً على العديد من الكيانات المحتضرة بعد ان اكل الزمان عليها وشرب، ووضح ذلك جلياً بالنتائج الفقيرة المخجلة التي حققتها في الانتخابات الاخيرة.
ان المنهج والرؤية الجديدة التي يريد المالكي تحقيقها في ولايته الجديدة لن يكون فيها متسع لمثل هذه الكيانات القديمة التي لم تتطور برغم الامكانات الهائلة التي اتيحت لها، حتى وان كانوا حلفاء واصدقاء ورفاق درب. الجميع نال مايريد من الوطن الا الوطن الذي لم ينل حتى الان اي شئ مما يريد.
وسواء كان ذلك باتفاق او بغير اتفاق، لوّح هؤلاء الاصدقاء الحلفاء بوجه رئاسة المالكي الجديدة بسبع اسباب عجاف تنصحه بعدم الموافقة على هذا التكليف التاريخي او الاقدام عليه لانه يبدو بعيد الحصول بوجود اي واحد من تلك الاسباب منفردة، فكيف وهي مجتمعة متعاضدة !!؟؟؟
لم يفطن هؤلاء المشيرون الناصحون الاصدقاء الحلفاء في غمرة هذه المؤامرة الخفية ان نوري المالكي المعارض الصلب والسياسي العريق ورجل الدولة الخبير لن يخدع بمثل هذه الالاعيب وعصي الدولاب الواهنة وانه اقوى بكثير من زوبعة الاوهام التي يثيرونها حوله بدس سم الخديعة في عسل النصيحة، وقد فاجأهم بدحض قائمة الاوهام السبعة التي وضعوها امامه كموانع لايمكن تفاديها او القفز فوقها حسب ادعائهم، وهي كالتالي :
اولاً – المرجعية الدينية وشعارها المعلن (المجرب لا يجرب) :
ان الخديعة التي يحاول الكثيرون ترويجها واستخدامها لاغراضهم السياسية فيما يخص فتاوى وتعاليم المرجعية الدينية، وذلك بتأويلات وتفسيرات منحرفة بعيدة جدا عن مقاصد المرجعية وهدفها منها،فالمرجعية الرشيدة لايمكن ان تقصد في شعارها (المجرب لا يجرب) الاطلاق والتعميم على جميع من شارك في إدارة العملية السياسية بالعراق الفاسد منهم والشريف والناجح والفاشل والمخلص والخائن على حد سواء!!
فالمرجعية احكم من ان تقع في هذا الاطلاق المجحف لأنها تعلم جيداً ان التعميم لغة الجهل والضلال وليس لغة المعرفة والرشاد، والمرجعية -كانت وماتزال وستبقى- مصدر المعرفة والحكمة والرشاد والهداية، من واقع اعلميتها اولا و مسؤوليتها عن مئات الملايين من الاتباع والمقلدين ثانيا، لذلك نراها دقيقة جدا في فتاواها وتعاليمها، تزن مواقفها وكلماتها بميزان مثقال الذرة لانها تحمل شرف الولاية امام الله ورسوله ووصيه وائمته الطاهرين المعصومين عليهم السلام ….وتأسيسا على هذا يمكن قراءة هذا الشعار بمعناه ومقصوده بيسر لا يخفى على أي حصيف او متبصر بالشأن السياسي العراقي، وخلاصته : أن المجرب الفاسد لا يجرب مرة ثانية ولا يعطى فرصة أخرى على حساب الوطن والشعب، اما المجرب الناجح فنعم وبلى، بل ان واجب المسؤولية يفرض تكليف هذا المجرب فرضاً تحقيقا للمصلحة الوطنية.
وفي سياق ذلك نتبين بوضوح ان المالكي هو المجرب القوي الذي احتوى الازمات الكبرى وخاض نيران التحديات الكبرى، وعزز الاقتصاد الوطني واعاد بناءه، ورفع مستوى الفقراء الى مستوى الاغنياء في توفير اساسيات الحياة وضرورياتها بل وببحبوحة عيش مايزال العراقيون يتذكرونها بشوق وتمنٍّ وامل. ان المرجعية الحكيمة لا يفوتها ان تراكم الخبرة والتجربة في قيادة الشأن العام له الاثر الاكبر في بناء الدولة وتسيير دفتها بنجاح وامان، وان ضرر تغير الوجوه المتكرر واستبعاد ذوي الخبرات هو احد اهم الاسباب الذي اودى بالبلد الى هذا الخراب والفساد والفشل، وان هذه المرحلة الحرجة والمفصلية من تاريخ العراق لايمكن ان تقاد الا بالمجربين الشرفاء الاقوياء الناجحين. واظن في شبه يقين ان المرجعية الحكيمة لولا مخافتها من التدخل في الشأن السياسي و تجنبها شبهة الانحياز لاحد او حزب او تيار دون الآخر، لصرّحت علنا انها تريد المالكي رئيسا للوزراء نظرا لصعوبة المرحلة وخطورتها ودقتها. ويعضّد هذا الحدس مايعلمه العراقيون عامة والسياسيون خاصة عن مدى احترام وتقدير المرجعية للسيد المالكي وثقتها به.