هكذا ابدا قراءتي للشعر , مؤمنا انه ( الشعر ) ,لابد ان يقول شيئا ,حتى عندما لا يريد ان يقول فلابد ان ” يعني شيئا ” ويعني موقفا تجاه الذات والاشياء , اما كيف يبدو ذلك الموقف , وكيف يتجلى ذلك الفن , فهو مهارة الشاعر وليس ثقافته فحسب , ولا اعني ابدا تغليب جانب على اخر فالاثنان مرتكزا الشعر , وخالقا اللذة وصانعا ال” شعرية “.
هنا وامامي نص شعري لشاعر عراقي يعمل بمنطقة مغايرة شعريا , وله رؤية يريد ان يستوعبها نصه , وتتحكم فيها مهارته . ولأني اريد ان افتح اسئلة تجاه النص/ القصيدة من زاوية ” ما يقول” وليس من زاوية ” كيف يقول” – مع ان الامرين متلازمان كما اشرت – فسأقترح على نفسي قراءة مضمونها اخذا بنظر الاعتبار ان المسالة لا تنحصر بالمضمون نفسه , وانما تكمن القضية كلها من وجهة نظري بالقدرة على تحديد زاوية للتعبير عن المضمون وبهذا تكون التجربة اقتراحات ممكنة من لدن الشاعر وبالوقت نفسه قدرة غنية مكثفة تمثل عالمه , وهي لا تولد من فراغ وانما تتكون ثم تتبلور من مجموعة من المشاهدات والانطباعات أي من المثيرات الحسية التي تكون لها القدرة على احداث الاستجابات عند الشاعر .لذا يصبح طرح المضمون بوصفه كشفا عن حقيقة او حقائق ذات منحى فردي او ذاتي ويصبح اثر هذا المضمون فينا بصفتنا قراء متحددا بمدى ملامسة تجاربنا لتجارب ذلك الشاعر وهو ما اريده في قراءتي للقصيدة .
تركز القصيدة على توسيع دائرة الضوء على مشهد يومي عابر , تعيد ربما الى الاذهان تجارب بعضها غني في الشعرية الغربية مثل تجربة وردز ورث وبعضها بائس مثل تجربة العقاد في ديوانه عابر سبيل ! لكن لاشك ان الشعرية العراقية لم يستثن دورها في استثمار العادي واليومي ,كما في تجربة كزار حنتوش الغنية وغيرها .
تطرح عبر سلسة متعاقبة من الصور المنتجة لمشهد يومي عابر, لا احد تغادره ذاكرة ذلك المشهد , لكن القلة من يتأمله او يستجلي منه ارتباطاته الرؤيوية . وقد تثير هذه القصيدة سؤالا لطالما بقي ” القديم الحديث ” هو ان القيم الشعرية تبدو في كيفية استثمار اليومي وتحويله الى تجربة جمالية كما ان القيمة الرؤيوية للتجربة قد تأتي من استثمار اليومي العادي ورصد قوته , فالقصيدة لا تكتب ابدا للحفاظ على القوانين وانما تكتب لانتهاكها وتسجيل قانون جديد هو خاصتها .
يمكن اجمالا ان نتبين ثلاث مشاهد جزئية تمتد لترسم المشهد الكلي بصورته التي اظهرتها القصيدة , الاول مفتتح تصويري يعيد للأذهان افتتاحات القصيدة الخمسينية من حيث ضخ الصور الشعرية التي يتقصى من خلالها الشاعر تأطير المشهد الكلي , لكن باختلاف واضح هو ان الشاعر يجعل هذا المفتتح مندغما بالمشاهد اللاحقة , من دون مساحة بيضاء يتركها لتأمل الصور , كذلك يجري التركيز على البعد التاريخي الذي يصنع المشهد ويكون علاقاته , ما يعني انه هنا لا يريد اثارة ذائقة المتلقي الجمالية على حساب القضية التي يطرحها النص , ولذلك نلحظ ” الارجل المزدحمة , عناء الارض , السماء الجافة , الالم الموجع الممتد بست جهات ,…”. هذه الصور لقطات ربما لم تحقق ادهاشا وهي خارج سياقها التعبيري لاقتراب المسافة التخييلية بين طرفيها , الا انها تتجمع في بؤرة واحدة لتمرير حركية المشهد الاول المحمل بالبعد التاريخي لشخصيات انحدرت من الهامش , وستبقى فيه , كما يظهر المشهد الجزئي الثاني اذ يسلط الضوء على ” المارة ” حيث تستيقظ بضاعتهم اولا حاملين تاريخا مقصيا منطقة في الهامش , ومن هنا تصبح حياتهم على هامش ” الشارع ” ايضا . فالرصيف الذي يشكل فضاء حركتهم ” مزدحم ذو هواء فاسد ” واللحظة العابرة التي تدخلهم الى ” صلب الحياة ” تتحكم فيها اشارة بلا روح ! . هذا المزيج من الحيوات ” بائعو الصحف والشاي والمتسولون وماسحو زجاج السيارات ..” يبقون مشدودين برهان الزمن , ومن هنا تظهر في القصيدة نقطة حساسة جدا يجيد الشاعر التعامل معها , فالزمن المجهول المعتم المقصي يمتد ليستحوذ على مساحة مركزية في المشاهد جميعها بنسب وكيفيات مختلفة فهو ” خارطة تعبث فيها الريح “. وفي المشهد الاخير ترتسم رؤية الشاعر وتستكمل القصيدة دورتها , حيث يرصد الشاعر علاقة ” اللون ” بصفته دالا , بحركية الحياة . تبدو الاشارة متحكمة بمصائر , وتغدو خالقة لحياة اذ تمثل دورتها اولا وتعمق الاحساس بالتهميش . ان اللون الاخضر ” الدال الاكثر خطورة , في هذا المشهد ” يتبادل الدور مع الاحمر فكلاهما ينتجان الحركة والسكون , باتخاذ طرفي المشهد ” شخصيات الرصيف واصحاب السيارات “. والاصفر بينهما ” اخف من رمشة عين ” دال على تأمل ما يمكن ان يقوم به الفرد او يطمح اليه . بهذه المشاهد الثلاثة يستكمل الشاعر مشهده الحركي اليومي رامزا من خلاله الى علاقة وثيقة الربط بحركية الحلم الانساني, وما يثير الانتباه حقا ان الشاعر اذ يلتفت الى توظيف ” دال اللون ” متخذا من الاشارة الضوئية الثلاثية , رمزا لحركية الحياة , يستبقي البعد الرابع منها في اشارة ذكية الى افتقاده. وربما دل هنا على المفتقد في حياة العراقيين حيث ” نرمم اجسادا ترتعش في كل الفصول ” كما يقول . , لكن من المهم والشاعر يرصد استهلاك المشاعر الانسانية وضياعها في دورة الحياة المستمرة , ان نسجل ثلاث ملاحظات سريعة , هي ان الشاعر هنا يقف خارج المشهد فهو ليس جزءا منه , وفي هذه الحالة يكون الشعر رصدا , لكن ما يهمنا ادراك التفاعل مع تجربته و ان تلك اللقطات العابرة من يوميات الناس , لم تشحن بلغة تشي بما يغلف هذا المشهد من حزن قاتم . وتظهر ميول الشاعر الى تقريب المشهد من خلال لغة ” اليومي ” السميط , ” او الصورة المعتادة من دون رتوش ” بائعو الشاي والمناديل وماسحو زجاج السيارات “. لكنه بالوقت ذاته مال الى اظهار الصور التجريدية بلغة خف بها الانفعال . ما يعني ان المشهد يعكس صورتين قد لا تتلاءمان الا من خلال بناء درامي .