يُقال إنَّ كلمة (شير) كلمة سومريَّة كانت تدلُّ على نوعٍ من النَّظم والغناء. وقد جاءت في العبرانيَّة بمعنى النَّشيد، كما في (شير هشيريم)، أي نشيد الأناشيد. وقد وردت كلمة (شعر) في النُّقوش الثَّموديَّة بمعنى الشُّعور، أي المعرفة. وقد عبَّرَ أحد النُّقوش عن ذلك بقوله (يقف فلان سليب هشعور)، أي سليب الشُّعور، باهتاً، مجرَّداً من معرفتِهِ ووعيِهِ. وقد نقل الشَّريف المرتضى أنَّ الشاعر الجاهليَّ كان، حين يريد هجاء شخصٍ معيَّن، يلبس رداءاً خاصّاً، ويحلق نصف شعره. وهذا يعني أنَّه يعلن عن موقفٍ شامانيٍّ سحريٍّ، مماثلٍ لموقف الشامان العائد من تجربة الرِّحلة إلى عالم الخفاء. وفي تقديري أنَّ ذلك لا يقتصر على الهجاء وحده، بل يمتدُّ إلى جميع الأغراض الشِّعريَّة. وإذا نظرنا في الأصول الاشتقاقيَّة للمفردات، فنحن نجد الهجاء بمعنى تهجِّي حروف اسمٍ معيَّنٍ لاستنزال اللَّعنة عليه، والرِّثاء بمعنى الحفظ، أي استبقاء الميت حيّاً بقوَّة الكلمات.
وفي الحقيقة فنحن لا نستطيع أن نفصل في تلك الحقبة بين الشِّعر والسِّحر والعلم، فهذه الحقول لم تكنْ ثلاثة حقولٍ مستقلَّةٍ عن بعضها، بل هي حقلٌ واحدٌ بثلاثة أسماء. فكان الشاعر عرّافَ القبيلة وكاهنَها وساحرَها وقائدَها وحكيمَها ومنظِّرَها والمدافعَ عنها بقوَّة كلماته، وهو فضلاً عن ذلك فارسُها وبطلُها، أي باختصار المثل الأعلى لها. ومثلما يقوم الساحر والشامان برحلةٍ شامانيَّة إلى وديان عوالم الخفاء المجهولة بالصُّعود إلى العالم العلويِّ أو الهبوط إلى العالم السُّفليِّ، كذلك كان الشاعر العربيُّ القديم يهيمُ في الوديان، ويزعم أنَّه يخترقُ الحُجُبَ، ويغامرُ في الدُّخول إلى فراديس الجنِّ في وبار أو يبرين وما شاكلَهما. وقد نقل أبو حاتم الرازيُّ عن أبي عمرو بن العلاء أنَّه قال إنَّ الشُّعراء في الجاهليَّة كانوا بمثابة “الأنبياء” في مجتمعاتهم. وكانوا يدَّعون التَّنبُّؤَ بالأحداث قبل حصولها، نتيجة اتِّصالهم بقوى الخفاء والغيب عن طريق شياطين الجنِّ الذين يزعمون أنَّهم يستوحونَ منهم. وليس من شكٍّ في أنَّ هؤلاء الشَّياطين لم يكونوا سوى الأقنية الثَّقافيَّة والقوالب الصِّياغيَّة في إنتاج الشِّعر الشَّفويِّ.