أبوليوس كاتبٌ رومانيٌّ مات في منتصف القرن الثاني الميلاديِّ، وقد قضى حياته في شمال إفريقيا، متنقَّلاً بين الجزائر، موطنِهِ الأصليِّ، وبين صبراتا في غرب ليبيا، وبين روما، التي تبنَّى ثقافتها ولغتَها في الكتابة، وبها كتب عمله الرِّوائيَّ الرائد والاستثنائيَّ “تحوُّلات الجحش الذَّهبيِّ”. في “تحوُّلات الجحش الذَّهبيِّ” لأبوليوس، يتحوَّل لوقيوس إلى حمار نتيجة خطأ في قراءة التَّميمة، أو في اختيار المرهم المناسب، أي بالتالي نتيجة خطأ في التَّسمية. كان لوقيوس قد نزلَ عند رجلٍ اسمُهُ ميلو، تمارس زوجتُهُ بامفيلي السِّحر الأسود، وبمساعدة خادمتِها فوتيس، التي تظاهرَ بحبِّها، يُفلِحُ لوقيوس بالتَّسلُّلِ إلى غرفتِها، والاطِّلاع على الكيفيَّة التي تحوَّلت بها إلى بومة. يقدِّمُ لوقيوس روايتَهُ عن التَّحوُّل، وهو يختلس النَّظر إليها من شقٍّ في الباب. وفي وصفه للطَّقس، يتزامن التَّحوُّل في الجسد مع التَّحوُّل في نطق الكلمات: “بدأتُ أرقبُ بامفيلي في البداية تنزعُ عنها ثيابَها تماماً، ثمَّ فتحتْ صواناً صغيراً به جملة صناديقَ صغيرةٍ، أحدُها ممتلئ بمرهم. أجالتْ فيه أصابعَها، وطَلَتْ به جسدَها كلَّهُ من أعلى الرَّأس حتّى أسفل إخمص القدم. ثمَّ تمتمتْ برقيةٍ طويلةٍ وانتفضتْ. فبدأ الرِّيشُ ينبتُ في أطرافِها –وأنا أرقبُها- شيئاً فشيئاً. وتحوَّل ذراعاها إلى جناحين قويين، وتقوَّسَ أنفُها إلى منقارٍ، وانقلبتْ أظافرُها إلى مخالبَ. وسرعان ما امَّحى كلُّ ريبٍ في الأمر؛ لقد صارتْ بامفيلي بومةً. زعقتْ وقفزتْ على الأرض قفزاتٍ صغيرةً، مادَّةً جناحَيها، حتّى تأكَّدت من قدرتها على التَّحليق، ثمَّ أشرعتْهما، وانطلقتْ تطيرُ فوق الدار”.
كان لوقيوس يعرفُ من صديقتِهِ فوتيس أنَّ التَّحوُّل إلى إنسان من جديد لا يستدعي سوى استعمال بعض الأعشاب. فتوسَّل إلى صديقته أن تساعده في الحصول على المرهم الذي تحوَّلتْ به بامفيلي إلى طائر. تردَّدت صديقته قليلاً، ثمَّ وافقته. صعدتْ على عجلٍ إلى غرفة سيِّدتها لتجلب صندوق المرهم. خلع لوقيوس ملابسه، ليدهن جسده بالمرهم، ويمارسَ طقسَ التَّحوُّل كما رأى بامفيلي تمارسُهُ. لكنَّ المفاجأة أنَّه لم يتحوَّلْ إلى طائرٍ، بل تحوَّلَ إلى حَيَوانٍ آخرَ: “وقفتُ أخفق بذراعي، اليسرى في البداية ثمَّ اليمنى، كما رأيت بامفيلي تفعل، لكن لم يظهرْ عليهما ريشٌ ولا زَغَبٌ.. كلُّ ما حدثَ أنَّ شعر ذراعي اخشوشن شيئاً فشيئاً، وتيبَّسَ جلدهما وصلبَ. بعدها تجمَّعت أصابعي لتصير كتلةً واحدةً، وصارتْ يدايَ حافرَينِ. ولحقَ التَّغيُّر قدمي، وأحسستُ بذيلٍ طويلٍ ينبثق من أسفل عمودي الفقريِّ. ثمَّ انتفخ وجهي، واتَّسع فمي، وتدلَّتْ شفتاي تتأرجحانِ، وانتصبتْ أذناي طويلتين يعلوهما الشَّعَر… وأخيراً، لم يكنْ أمامي إلّا مواجهة الحقيقة المميتة، وأنا أتفحَّصُ نفسي. لم أتحوَّلْ إلى طائرٍ، بل تحوَّلتُ إلى جحشٍ”.
لقد أخطأتْ فوتيس في اختيار المرهم، وجلبتْ صندوقاً آخر. وليس هذا الصُّندوق سوى تعويذة سحريَّة أو كلمة. يخرج لوقيوس باحثاً عن حبيبته فوتيس، التي تعتذر عن خطأها وتطلب منه البقاء في الأسطبل، حتّى تجلب له الأعشاب المضادَّة. وفي فترة بقائِهِ في الأسطبل، يعرف أنَّ عصابة من اللُّصوص اقتحمتِ المدينة، وصارتْ تهاجمُ البيوت بهدفِ سرقتها. وكانَ من ضمن المسروقات الحمار لوقيوس وجواده.
بعد ذلك تجري سلسلة طويلة من المغامرات، التي يصفُ فيها لوقيوس الأحداثَ بصيغة ضمير المتكلِّم، على لسان حمار، قضى شطراً منها مع اللُّصوص، وشطراً مع الفلّاحين، والخيول. وفي بيت المستشار، يحدث أنَّ امرأةً مجرمةً يُحكَمُ عليها بالموتِ، ولكن يجب أن يجامعَها حمارٌ في المسرح قبل موتها. ويقع الاختيار على الحمار لوقيوس. وقبل لحظة من العرض المخزي، تأنفُ كبرياءُ الحمارِ من مجامعةِ امرأةٍ مُجرمةٍ، فيقرِّرُ الهربَ والعَدْوَ بكلِّ ما أُوتِيَ من قوَّة. وفيما هو يَستَروِحُ من عناء عَدْوِهِ على الشاطئ ليلاً، يظهر له طيف الرَّبَّةِ إيزيس. في البداية تعدِّد عليه أسماءَها بمختلف الثَّقافات واللُّغات، ثمَّ تنصحُهُ بأن يتقدَّمَ في الاحتفال البهيج غداً، حتّى يقتربَ من الكاهن الأكبر، ويلتهمَ الإكليلَ الذي بيدِهِ، وحينئذٍ سيُفلِحُ في استردادِ شكلِهِ الإنسانيِّ.
فعلاً ينهض لوقيوس الحمار، في اليوم الثاني، وفي غمرة الاحتفال، يجد الكاهن مستعدّاً بانتظاره، كأنَّما هو يقول له تعالَ وَكُلِ الإكليلَ. وما كادَ يلتهمُ الإكليلَ، في مهرجانِ الاحتفالِ بإيزيسَ، حتّى بدأَ يفقدُ ملامحَهُ الحماريَّة، ويستردُّ ملامحَهُ الإنسانيَّة. ولأنَّه كانَ عارياً، فقد اضطرَّ الكاهنُ إلى تغطيتِهِ بكساءٍ.
لكن لوقيوس إذا تحوَّل إلى حمار، من حيث الشكل، ولم يعد بوسعه أن يتكلم مع البشر، فإنه بقي يحتفظ بهويته ورؤيته للعالم من حيث هو إنسان.
فهو يمتلك ذاكرة إنسانية ووعياً إنسانياً يستقبل بهما الأحداث التي تقع أمام عينيه. وبالتالي فإن تحوله هو تحول بالنسبة إلى الاخرين فقط، أما هو فبقي إنساناً في وعيه وأخلاقه.
وهنا يظهر سؤالٌ مهمٌّ أيضاً، وهو أنَّه إذا كانت إيزيس قادرةً على تحويلِهِ، فلِمَ لمْ تحوِّلْهُ إلى إنسان عند الشاطئ في أوَّل ظهورِها له. الواقع أنَّ هذا السَّؤال سؤالٌ مُسرِفٌ في عقلانيَّتِهِ، وللأسطورة منطقُها المغاير، وعقلانيَّتُها السَّرديَّة. فالحمار هو أبغض الحيوانات وأخطرها، أو كما تعبِّر إيزيس نفسُها في الرِّواية “كانَ بالنسبة إليَّ دائماً أشدَّ الحيواناتِ مَقتاً في الوجود”. ولقد كانَ كذلك، لأنَّه كانَ، في عصر أبوليوس، يرمزُ إلى الشَّيطان. أرادتِ الرَّبَّة أن يكون تحوُّل لوقيوس من حمارٍ أو شيطانٍ تكريماً له. ينزعُ جلدَ الحمارِ ليستردَّ جلده البشريَّ بأمرِ الرَّبَّة نفسِها. وفي داخل هذا التَّحوُّل من حمار إلى إنسان، تحوُّل ضمنيٌّ آخر من شيطانٍ إلى إلهٍ. ولم تترك الرَّبَّة التَّحوُّلَ يجري بلا تخطيطٍ، بل اختارتْ له الساعة المناسبة. ففي الاحتفال كانت هناك حفلة تنكُّريَّة لبشرٍ يلبسونَ مختلفَ الوجوهِ. وإذا كان تحوُّل لوقيوس إلى حمارٍ قد جرى في السِّرِّ، في غرفةٍ مغلقةٍ، ولم يشعرْ به أحدٌ سواه، فإنَّ تحوُّلَهُ الثاني إلى إنسانٍ قد جرى أمامَ الملأ، للإعلان عن تكريمِهِ واختيارِ الإلهةِ له، في احتفالِ المدينةِ الصاخبِ، لكي يرى الناس جميعاً معجزةَ اختيارِ الرَّبَّة إيزيسَ له.
كتبَ باختين في كتابه “الخيال الحواريّ” حول التَّحوُّل في “الجحش الذَّهبيّ”: “لدى أبوليوس، يكتسبُ التَّحوُّل طبيعةً أكثرَ شخصيَّةً وعزلةً، بل طبيعةً سحريَّةً بصراحة. ولا يكاد يبقى شيءٌ من عرضِهِ السابق وقوَّتِهِ. فقد أصبح التَّحوُّل وسيلة إضفاء الطابع التَّصوُّريِّ على القَدَر الفرديِّ ورسمِهِ رسماً شخصيّاً، وهو قدر مقطوع عن الكلِّ الكونيِّ والتاريخيِّ معاً. مع ذلك، تظلُّ فكرة التَّحوُّل فكرةً قادرةً على استعادة قوَّتها (بفضل التراث الفلكلوريِّ المباشر) على استيعاب مصير إنسان على امتداد حياتِهِ، في جميع منعطفاتها الحاسمة. وهنا تكمن دلالته في نوع الرِّواية”.
وما يسمِّيه باختين بالقَدَر والمصيرِ لم يكن، في منظور العقل الأسطوريِّ، سوى لعبةِ التَّسمية الشِّرِّيرة في تحوُّلِهِ الأوَّل، والتَّسمية الإلهيَّة الخيِّرة في تحوُّلِهِ الثاني.