أعظم ما شهده تاريخ البشر جهودهم في البحث عن الحقيقة، وأسوأ ما شهده تاريخُهم هو احتكار الحقيقة، احتكار الحقيقة تحوّل إلى شرّ ومرض يفتكُ بالعقل والجسد والروح،
حيث ارتَكبَت السلطات الدينية والمدنية على حدّ سواء جرائم ضدّ أصحاب الرأي محرّضة العامّة والقانون على تعليق العلماء على المشانق، أو عزلهم أو تسميمهم أو إهانتهم أو تجويعهم حتى الموت.
وتّعد محاكمة سقراط الفيلسوف اليوناني الشهير وإعدامه في القرن الرابع قبل الميلاد فاتحة خالدة للنزاع بين السلطة والعقل الخلاق بعد أنْ اتهموه بتسميم عقول الشباب لأنّه شكك بوجود الشيطان واعتبر العيش في الفضائل أهم من عبادة الآلهة. احتكار الحقيقة من قبل سلطات أثينا (الديمقراطية) أعمت الأبصار وضحّت بعقل سقراط الذي بقي خالداّ خلود أثينا وأنهارها وصخورها.
ومن أشهر الإعدامات التي نفذت بالعلماء أيضاً ما حدث في النصف الثاني من القرن السادس عشر، حين أعدم (كوبر نيوكس) الذي رأى أنّ الأرض لا يمكن أنْ تكون مركز الكون، معاكساً استنتاج الكنيسة.
ثم (غاليلو) الذي ارغموه تحت التهديد على التراجع عن افكاره بعد أن كفر بعقولهم حين قال: إنّ الأرض هي التي تدور حول محورها، مخالفاً بذلك آراء كُلّ من رأى أنَّ الكون هو الذي يدور حول الأرض وهي ثابتة فأعدموه،
بل وصل الإرهاب لدرجة إحراق بعض الفلاسفة أحياءً كما حدث مع العالم والفيلسوف (جوردن وبرونو) الذي أحرقه القساوسة في ميدان روما مطلع عام 1600 لمجرد أنه أيّد نظرية كوبر نيكوس وجاليليو.
وما حدث في أوروبا تكرّر في التاريخ العربي والإسلامي في حالات شهدت أساطير في البشاعة فبعد أنْ نشر (ابن المقفع) رسالته المُعنونة (رسالة الصحابة) أرسلها باحترام وتهذيب إلى الخليفة أبي جعفر المنصور كرسالة من ناصح أمين لا يُريد غير الإصلاح، لكن المنصور لم يحتمل ما جاء فيها من نقد فأمر بتقطيع جسد ابن المقفع قطعة قطعة وهو ينظر إلى أعضاء جسده وهى تُلقى في النار!
وتتوالى أحداث العداء لكل فكر حرّ، فنجد صلاح الدين الأيوبي يقتل الفيلسوف السهروردي (1153 – 1191) تجويعاً، كما تمّ قُتل الحسن بن منصور الحلاج (858 – 922) لأنّه دعا إلى إمكان الاستعاضة عن الوسائط في العبادة والتوفيق بين الدين والفلسفة على أساس من التجربة الصوفية، فاتّهم بالكفر. وبعد سجن دام سبعة شهور، صدر الأمر بقتله، فتمّ تقييده وضربه بالسياط ثم صلبه وقطع رأسه وحرق جثمانه.
المثير في الأمر حين يشترك فقهاء وفلاسفة في جريمة اغتيال زملائهم متواطئين مع السلطة في غريزة احتكار الحقيقة العمياء كما حدث مع (ابن عربي) 1165 – 1240 مؤلف الفتوحات المكية وكتابه (ترجمان الأشواق) الذي أثار عليه الفقهاء بدعوى الضلالة، واتهموه باستعمال الرمز كستار لإخفاء ما يُنافي الدين. وحين رأى ابن رُشد: إن الإنسان يحتاج للعقل والدين معاً، داعياً إلى إخضاع النصّ الديني للبرهان العقلي عند الخلاف، أفاد الأوربيون من هذا الفكر المعتدل المنتج فيما أحرق العرب كتب الرجل ونفاه الخليفة من قرطبة إلى مراكش حتى مات هناك.
وإذا كان الاضطهاد طال الفلاسفة والمفكرين، فإنّه طال فقهاء الدين المجتهدين أنفسهم كما حدث مع أبي حنيفة النعمان لمجرد أنه أيّد ثورة زيد بن علي على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. فأفتى بأنّ الثورة على ملك الأمويين جائزة شرعاً. كما رفض أبو حنيفة التعاون مع الخليفة أبى جعفر المنصور الذي أمر بحبسه وجلده عشر جلدات يومياً. وتكرّر نفس الشيء مع أحمد بن حنبل في محنة (خلق القرآن) وانتهت بسجنه 28 شهراً حيث كان يُضرب بالسياط حتى يُغمى عليه.
هذا الإجرام الذي اشترك فيه محتكرو الحقيقة وسدنة السلطة عبر التاريخ تم تقويضه في أوربا بثورات وجهود للنخب الفكرية والثقافية والفلسفية على يد فرسان أوربا من طراز فولتير والفيلسوف (كانت) الذي كتب “أنّ الظواهر أو المُعطيات التجريبية في إطار الزمان والمكان هي وحدها موضوع المعرفة الإنسانية. بينما (الإله) ليس موضوعًا للمعرفة”. فضلا عن جهود سياسية وفلسفية لتحييد دور الكنائس فلم تعد لها أية سلطة على الحياة الدنيوية للبشر المسؤولين عن وضع القوانين المُنظمة لحياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي نهضتْ أوروبا بتقدّم العلم وترسيخ قيمة الحرية. فيما شهد تاريخنا العربي والإسلامي تشعبا مبالغا به من صور احتكار الحقيقة وسوق العامة بسياطه،
فتحولت الحقيقة الإلهية إلى حقائق ناقصة متفرقة يقصي أتباع أحداها أتباعَ الأخريات، وتسرب ذلك إلى السياسة التي بالغت كثيرا في إقصاء الرأي الأخر وارتكاب جرائم قتل المخالف، لتحرم الأجيال اللاحقة بسبب ذلك من الاجتهاد والبحث والتقوى الطوعية الحرة والمشاركة السياسية والمعرفة.