لقد شغل التفكير بالتاريخ العقل العربي والعراقي لسنين طويلة وأحتل جزء مهم من حياتهم وأثر في أحوالهم حتى ليخيل للمرء أحياناً أن العرب عموماً، والعراقيين بشكل خاص،ما زالوا يسكنون ما قرأوا أو سمعوا عن التاريخ دون أن يغادروه. وأذا كان العالم اليوم يعيش ويعاني من حالة الأحتباس الحراري،فيبدو أن العراقيين ومنذ زمن طويل يعيشون في حالة أحتباس تاريخي. ويقيناً فأن الأهتمام بالتاريخ يبدو مضاعفاً عند العراقيين ليس فقط لان التاريخ هو من أنتج حاضر العراقيين،بل لأنه هو من كبل هذا الحاضر وما زال يعيق حركة المستقبل فيه. أن العراقيين الذين مازالوا مختلفين على ماضٍ نُقل لهم وتوارثوه كما توارثوا أسماؤهم لم يكتفوا بجعل التاريخ مصدراً لخلافهم،بل أختاروه مصدراً لخلاصهم المستقبلي.أي أنهم رهنوا مستقبلهم لماضيهم. فأذا كان المستقبل هو خيار الماضي فكيف يمكن له أن يختلف عنه؟! وكيف يمكن توقع مستقبل متفق عليه،مبني على ماضٍ مختلفٌ حوله؟!
لا أقصد هنا الصراع الطائفي السياسي في العراق والذي ما زال حاضره كماضيه وكأنما ما زالت (السقيفة) منصوبة في أحد شوارع بغداد أو البصرة أو قميص عثمان معلقاً على ملوية سامراء! بل أقصد كل أنواع الصراع السياسي والأجتماعي الأخرى والتي تجد في التاريخ معيناً لأوارها .فالكورد يستندون للتاريخ ويريدون العودة له لأثبات هويتهموأستقلالهم،والمسيحيون يعودون بنا للتاريخ الذي كانوا يشكلون أكثريةً فيه،والتركمان والصابئة وسواهم يفعلون مثل ذلك لأثبات هويتهم وتميزهم! الملكيون يريدون بنا العودة للملكية ويلعنون تموز ودمويتها،والشيوعيون يريدون العودة بالعراق لتموز (قاسم) وجمهورية الأصلاح الزراعي و(شفقة)العامل. البعثيون يتغنون بماضيهم وقادسيتهم،وضحاياهم يأنون من ماضيهم وساديتهم.لا بل حتى دول الجوار لا تنسى ماضيها مع العراق،فلا أيران تنسى ماضيها الفارسي في العراق منذ كورش الى عباس الصفوي مروراً بكسرى. ولا تركيا تنسى ماضيها منذ سليمان القانوني الى مدحت باشا. ودول الجوار العربي ما فتأوا يذكرون عراق (صدام) أن كان خيراً أو شراً لهم.
لقد لفنا الماضي بعباءته وأجبرنا على عبادته. وبدلاً من ان يكون الماضي عِبرة لا تنتهي،صار عَبرةً لا تنقضي. هذا الأنغماس الذي لا فكاك منه هو ما جعل أحدى الباحثات في تاريخ العراق الحديث تقول (أن للعراق إرثا تاريخيا ثر ومتنوع ارتكز عليه في صياغة هويته الوطنية و يتلخص في ثلاث عناصر (ماضوية) أسهمت إسهاما مهما في صياغة الذاكرة والوعي الجمعي العراقي في القرن الحادي والعشرين و تشكيل مؤسساتهم واعرافهم .هذه العناصر هي حضارة وادي الرافدين القديمة والتراث العربي ?
وارث الإمبراطورية العثمانية،وأغفلت هذه الباحثة أحداث القرنين العشرين والحالي لأنها لم تؤرخ لهما. واضح أذن أن للتاريخ وطأة بل صولة في كل العراق.وأنه لعب دوراً مهماً في تشكيل شخصية الثقافة الأجتماعية في العراق.لكن السؤال المهم الذي نحاول الأجابة عنه هو كيف أثر تاريخ العراق في ثقافته التي أثبتت الدراسة الميدانية أنها من طراز الثقافات الصلبة وغير المرنة التي تقيد الأبداع ولا تتقبل التغيير وتعاني من قلق وتوتر أمني دائم؟ وكيف يمكن أثبات وطأة التاريخ على الهوية الثقافية العراقية؟ قبل الشروع في شرح ذلك لا بد من التأكيد على مسألة منهجية مهمة جدا في مناقشة التاريخ وتأثيراته في المجتمع،سبق للاستاذ محمد عابد الجابري أن تناولها، وتبدو جديرة بالدراسة والتأصيل،بخاصة وأنها تتصل أتصالاً وثيقاً بما ذكرنا آنفاً بخصوص سجن التاريخ الذي لا زال العراقيون يعيشون في أغلاله مثلما كان يعيش عبيد أفلاطون في كهفهم.أنها مشكلة وحدة التاريخ وأنتقائيته. أن المنهجية التي يتعامل بها العراقيون مع تاريخهم منهجية ليست فقط أنتقائية،وأنما أيضاً عدائية. هذه المنهجية التي يتعامل بها كثير من العراقيين مع التاريخ تجعل تاريخنا أنفصالي بلا أستفتاء،وأنعزالي بكل أستعلاء. (يتبع)