بعض الكلام يُقال لأنه حقيقي، وبعضه بهدف الكذب والخداع وفي جزء من الحقيقة، وبعض آخر لا لشيء سوى للتسلية والتسلية أيضا حقيقة. أما في السياسة، فلا شيءَ حقيقي يُقال! فلو ذكرَ السياسيُّ البحرَ في حديثه، فعليك أنْ تصدقَ بأنهُ لا يقصدُ البحرَ الذي نعرفه، بل يستعيرهُ ليغرقَ مريديهِ في منهجهِ وأفكاره الفرديةِ الأنانية، ويسحبُ آخرينَ قريبين بأمواجه، ومن ثمَّ يجلسُ محتفلاً بالنصر. لا شيء ممّا يُقال في السياسةِ يربطُ المواطنَ البسيطَ بالحقيقةِ ولو بدرجةٍ بسيطة، ولأنّ الحديثَ السياسيَّ التُراثيَّ صارَ لا يُقنعُ أحداً من المواطنين، ولأنّنا صِرنا نعرفُ نهايات كلّ دهاليزِ السياسةِ القديمة، حتى أنّ بعضنا من المواطنين المساكينَ استطاعَ خلالَ فترةٍ قصيرةٍ أنْ يعتلي صهوةَ السياسةِ ويتسابقَ مع آخرين لهم باعٌ طويلٌ ربما أطول من أعمار الجددِ أنفسهم، فقد بحثوا، وهم المجتهدونَ في البحثِ عن طرقِ خداعٍ جديدة، ووجدوا، وهم الماكرون في اختراعِ تقنياتِ خداعٍ حديثة، وسائل رغم تفاهتها إلّا أنها تجاوزتْ الحدَّ الأعلى للفكرِ المجتمعي الذي استقرَّ سابقاً على أساليبَ معيّنة، واجتازتهُ وأقنعتهُ مرةً أخرى بنزاهةِ المُجدّدينَ المُحدّثين، ومحوا الآلامَ القديمةَ من عقولنا لننسى أنّهم أيضاً جاؤوا على ظهورِ الدباباتِ سابقاً، وأعطونا جرعةَ أملٍ جديدةٍ بأنّ الدباباتَ التي ستأتي مجدّداً ليستْ هي نفسها الدبابات القديمة التي دمّرت ومحت وقتلت مئات الآلاف! سيقولُ الشيخُ الكثيرَ رغمَ صمتهِ المعلن، سيقولُ أشياءَ أكبرَ من أنْ تُقال، وأكثرَ خيالاً من أنْ تُصدّق، سيقولُ أشياءَ لا منطقيةً عن حربٍ هي الأمرُّ أبداً تجري رحاها على أرضنا، وعن ظالمين يُقتلون، وأبرياء يكونون ضحايا، ثمناً للحرية والديمقراطية التي سيأتي بها الغرباءُ لنا كهديةٍ جديدةٍ لهذه الشعوبِ الملعونةِ بالموت. ولكن ألَمْ نأخذ هذه الهدية قبل سنوات قليلة؟ أليست هي نفسها رائحةَ الأملِ الزائفِ تفوح منه؟ نفس البذور الخبيثة التي نبتت في أرضنا وبدأت تجيف، ألا تعني كلّ هذه الوعودِ بأنهم سيزرعونها مرةً أخرى! أهذا ما لم يقلهُ الشيخ؟! أم أنَّ ما قالهُ ليس سوى بحرٍ يجذبُ به مجذوبينَ جُدد؟!