على الرغم من أختلاف آراء الباحثين في أصل تسمية العراق كما يرى المرحوم طه باقر فمنهم من جعل اصلها عربي بمعنى شاطىء البحر او سيف البحر ومنهم من يرى اصلها فارسي (ايراه) وتعني الساحل ايضا، الا ان هناك رأي معتبر أيضاً يعتقد ان لفظ العراق مشتق من كلمة أوروكUruk او اونوك Unuk وهي مدينة سومرية شهيرة. أي أن من الصحيح القول أن العراق كأقليم سياسي لم يكن موجوداً قبل الميلاد لكنه كان معروفاً منذ زمن سبق تأسيس دولة العراق الحديثة بفترة بعيدة . بالتالي فأننا لا نعدو الحقيقة حين نقول أن هناك ثقافة أجتماعية (عراقية) ضاربة الجذور في التاريخ. ثم جاءت الحضارة الأسلامية ليكون العراق ببصرته وكوفته وبغداده وسامراءه وموصله وسواها من المدن نقاط أشعاع حضاري وثقافي مستمر لقرون عديدة. فأذا أنتقلنا الى عصر مابعد العباسيين فأن ما أصاب العراق من مصائب وويلات أمتدت لحين تأسيس الدولة العراقية ترك أثراً عميقاً في شخصية الثقافة الأجتماعية للعراق. ثم جاء ت أحداث القرن العشرين والقرن الحالي مليئة بمتغيرات بيئية وأحداث أجتماعية وسياسية وأقتصادية وأمنية تبرر القول أنها تركت أثراً واضحاً في الأجتماع العراقي.
حصول تأثير
وبما أننا ندرس أثر التاريخ في شخصية الثقافة الأجتماعية العراقية،فأن ما نهتم به هو حصول التأثير سواء كان ايجابياً أو سلبياً في الثقافة الأجتماعية. من هنا تصبح وحدة التاريخ أساس مهم لفهم وطأة التاريخ على الثقافة الاجتماعية في العراق. والمقصود بوحدة التاريخ هنا هو الأبتعاد عن الأنتقائية في السرد التاريخي والتعامل مع التاريخ كوحدة واحدة وليس كجزرمتناثرة ننتقي من نعيش فيها ونرتاح لها،كما أشار لذلك لونكريك في مقدمة موسوعته عن القرون الخمسة التي تلت أحتلال المغول للعراق. بمعنى أن القول أن الثقافة العراقية هي وريثة ثقافة سومر وأكد وبابل وآشور فقط ليس صحيحاً،كما أن أنكار أنها ليست وريثتهم هو غير صحيح أيضاً. نفس الشيئ ينطبق على من يؤمنون أن الثقافة الأجتماعية العراقية هي وريثة الثقافة البدوية فقط ،أو وريثة الثقافة الأسلامية أو العثمانية او الملكية او الجمهورية أو هي ثقافة مابعد الاحتلال فقط. أن رفدنة(من رافدين) الثقافة الاجتماعية،أو أسلمتها،أو لبرلتها لن تؤدي الا الى مزيد من المعالجات المشوهة والمقطّعة للتاريخ بما يسهم في زيادة الأسر التاريخي للعراقيين.
أن الثقافة الاجتماعية مزودة ببرمجيات يمكن تسميتها بالذكاء الاجتماعي social intelligence الذي ينتبه لكل حركات وتفاعلات المجتمع مع بيئته ويطور تبعاً لها معايير وسلوكيات أجتماعية تتناسب مع التجربة التاريخية المعاشة. وفي فعله هذا لا يميز الذكاء الأجتماعي بين حقبة تاريخية وأخرى بل يميز بين تفاعل أجتماعي وآخر. فالذكاء الأجتماعي لا يتتبع الزمن خطياً فيقفز عبر نقاط الزمن المختلفة ليربط بينها كما تفعل المنحنيات الخطية في الرسوم البيانية. أن الزمن في الثقافة الأجتماعية يسير عبر مسارات لولبية تفاعلية تسجل التفاعلات الأجتماعية وليس الأحداث التاريخية.
أن مفهوم التاريخ الذي يبني ثقافة عراقية أجتماعية موحِّدة لا مفرِّقة هومفهوم تفاعلي تراكمي يرفض منطق الانعزال والتجزر ويتبنى مفهوم الوحدة والتجذر. فجذور الثقافة الأجتماعية التي وصلت لنا هي نتاج عملية نشوء وتطور تاريخي لا يمكن أختزاله بحدث معين أو حقبة معينة مهما كان حجمهأ وتأثيرها كما لا يمكن أغفال أي حدث مهما بدا شأنه يسير. أن الأحتباس التاريخي الذي يعاني منه الأجتماع والسياسة في العراق مثل الأحتباس الحراري يخنق الجو بالغازات السامة التي تبقى حبيسة في قوقعتها،ويغير المناخ الطبيعي ويجعله عرضة لتقلبات وتحولات غير طبيعية وغبر متوقعة تؤثر في كل مناحي الحياة. ولعل هذا هوأحد أهم أسباب تشتت الهوية الوطنية الجامعة،فكلٌ له مرجعيته التاريخية التي لا تتفاعل بل تتصارع مع مرجعيات الآخرين التاريخية. وبما أن التاريخ مكوِّن أساس من مكونات الثقافة الأجتماعية فأن تمزيقه الى قدائد قددا لن يسهم الا في مزيد من تشتت الثقافة العراقية.