‏لتميم بن جميل شِعرٌ جميلٌ في حضرة المعتصم عندما طلب منه تقديم الاعتذار والعودة إلى بيت الطاعة . بينما كان شاهراً سيفه ليقتله . فارتجل تميم قائلاً :

‏وأيُّ امـرئٍ يُـدلـي بعـذرٍ وحجَّــةٍ

‏وسيفُ المنايا بين عينيهِ مُصلَتُ؟
حال هذا الشاعر المسكين يشبه حال كثيرين لا يملكون من حول ولا قول إلا أن يشبكوا الأيدي فيصفِّقون لرؤسائهم : “ جسم البغال وأحلام العصافير ”!.

‏والأديب السوري محمد الماغوط يتساءل بلغته الساخرة :

‏ ” يدٌ واحدةٌ لا تصفِّق .. إلى الجحيم .. ألم تشبعوا تصفيقاً بعد ” ؟ !.

‏بالطبع لا . فنحن مولعون بالتصفيق والتهريج والزعبرة أيضاً . نصفق كثيراً . ونصفق طويلاً . ولا نملُّ ولا نتعب . لكل كارثة أو مصيبة . بمناسبة ومن غير مناسبة . عند كل نقطة وفارزة . لمن يستحق ومن لا يستحق . جلوساً ووقوفاً وعلى جميع الموجات العاملة : القصيرة، والمتوسطة، والطويلة .

‏وذات مرة زعل شاعرنا عبد الرزاق عبد الواحد وهو يلقي علينا مجموعة جميلة من قصائده، ولم نكن نعلم سبباً للزعل، لكننا أعدناه إلى المنصة أربع مرات بالتصفيق .

‏طبعاً لسنا أول من يعيد شاعراً بهذه الطريقة الدراماتيكية . فالعازف الشهير مايلز ديفيس أعاده الجمهور إلى خشبة المسرح ستاً وثلاثين مرة بالتصفيق !.

‏القصة ذاتها حدثت مع الجواهري . فعندما كان ينشد للمتنبي في قاعة ابن النديم ويجعل من “ فتى بني الدنيا فتانا ” انقطع التيار الكهربائي مدة دقيقتين . ترك المنصّة غاضباً . فقابله الجمهور بالتصفيق وأعاده الشاعر شفيق الكمالي بالأحضان .

‏والتصفيق أشكال وألوان : من تصفيق المأجورين إلى تصفيق المأزومين .. ومن التصفيق الإجباري إلى التصفيق الاختياري، وهناك التصفيق السريع والبطيء، والتصفيق بالمزمار والطبل على حبَّة ونصف . أو حبّة فوق حبَّة تحت !.

‏ونحن نحتاج إلى عالم نفسي خبير من طراز سيجموند فرويد لتفسير هذه الظاهرة الغريبة . إنها غريبة ومزعجة . فلا أنت ولا أنا ولا أحد يعلم متى بدأ هؤلاء الناس يتشقلبون، ويصفقون؟ !.

‏البابليون كانوا يصفقون أيضاً . والرسوم الفرعونية أظهرت لنا قدماء المصريين كيف يصفقون بالعزف والغناء . وفي اليونان كان المصفقون للعروض المسرحية على مسرح أثينا . أمَّا الإمبراطور الروماني نيرون فإنه ابتكر مدارس في عصره لتعليم أصول التصفيق .

‏ثمَّ أن الرئيس، أو الحاكم، مثل أيِّ شاعر . مثل أيِّ فنان على خشبة المسرح . يسعده أن يكافئه جمهوره بالتهليل وبالتصفيق . لكن ليس على طريقة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو . كانت الخطبة الواحدة من خطبه تستغرق ست ساعات . وكان على الجماهير أن تصفق طوال هذه الساعات . يُقال إنه دخل ذات مرة مبنى الإذاعة والتلفزيون وجلس يخطب في الجماهير منذ الساعة الرابعة عصراً حتى الرابعة من فجر اليوم التالي !.

‏ووجدنا في خطب الرئيس السادات فواصل من التصفيق بعشرين ثانية لكل ثلاث كلمات . يقول : “ بسم الله ” فيقابلوه “ بوقوف وتصفيق ”. عاهدت الله وعاهدتكم “ وقوف وتصفيق ”. وبالهتاف والدعاء “ الله معك يا ريِّس ” كان التصفيق أطول من الخطاب .

‏السياسة تتشقلب مثل مراجيح العيد . يوم لك وعشرة عليك . كلما جاءنا حاكم أذكاه الحنين إلى الماضي فأصيب بالعدوى من حاكم أخفق في يوميَّات الغرام فتملَّكته شهوة الانتقام . فدوَّخناه بالهتاف، وخدعناه بالتصفيق . ثم خلعناه، ورجمناه بكل موبقة وحرام .. يا أمةً ضحكتْ من “ نفاقها ” الأممُ

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *