هل كان يتوجب ان تقوم روسيا بغزو اوكرانيا ليكتشف العرب أنهم مكشوفون غذائيا، ومجرد رهائن لفساد النظم وسوء الإدارة والاستبداد، او للإرادات الخارجية.
اندلعت الحرب في أوكرانيا، فشعر العرب بالجوع، ولم تمضِ غير بضعة أسابيع، حتى أصبح نقصُ المواد الغذائية الأساسية هاجسا مقلقا بشدة لنحو 11 دولة عربية، يمكن أن تعاني أما من نقص الامدادات وشح الغذاء أو توافرها مع ارتفاع شديد في الأسعار سيجعل رغيفَ الخبز غير متاح لكثير من الفقراء، مما يهدد باحتجاجات تربك المشهد الاجتماعي والأمني.
يقول البنك الدولي إن البلدان العربية تواجه مخاطر الأمن الغذائي نتيجة اعتمادها إلى حد كبير على واردات القمح من الخارج. تستورد الدول العربية 25% من مجمل صادرات القمح العالمية، يأتي معظمها من روسيا وأوكرانيا، ومع اندلاع الحرب هناك، صحت الحكومات العربية لتجد انها لم تهيئ نفسها لمثل هذا اليوم، ليس لأنها لم توفر فقط خزينا استراتيجيا كما ينبغي، بل لأنها ايضا ظلت تمارس الفشل في تطوير الزراعة، حتى انتهى بها الحال بعد عقود من التراجعات الى أن تواجه شبح الجوع حرفيا، أو أنها ستخصص اموالا اضافية تقتطعها من بنود ضرورية أخرى لتشتري نفس السلعة بضعف سعرها.
بعد عقود من الاستقلال، فشلت حكوماتنا في أن توفرأمنا غذائيا بحدوده الدنيا، ولسوء الحظ فإن ذلك ينطبق بشكل خاص على بلدان كنت مهد الزراعة عبر التاريخ، مثل مصر والسودان والعراق، وهذه بلدان نشأت حضاراتها أصلا كمجتمعات زراعية وظلت كذلك لعصور طويلة، قبل أن يكتشف الناس، أنهم كانوا ضحايا استهتار مطلق بمصائرهم، حيث نخر الفساد وسوء الادارة والارتهان للارادات الخارجية بكل سبيل للتنمية، ومنها بشكل خاص الزراعة، في دول غالبية سكانها من الارياف.
أن يستورد السودان القمح مثل أن تستورد السعودية النفط أو قطر الغاز، ففي السودان تربة صالحة وماء وفير وشمس، وينعم بأكثر الأراضي خصوبة في أفريقيا، تجعله قادرا أن يكون قوة زراعية عظمى، وملاذا للعالم ضد أي أزمة غذائية. ولكن قدرَ شعبه أن يستورد 95% من الكمية التي يستهلكها من القمح سنويا والبالغة 2.2 مليون طن من روسيا وأوكرانيا . وأن يرتفع سعر الرغيف الواحد فيه خمسين ضعفا خلال 3 سنوات.
مصر هبة النيل، وذات المئة مليون نسمة، هي أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث تتلقى لوحدها نحو 11% من مجموع الصادرات العالمية وبما يغطي ثلثي حاجتها من القمح، والمشكلة أن نحو 80% من احتياجاتها يأتي من روسيا واوكرانيا، فضلا عن واردات أساسية أخرى مثل الزيوت والذرة.
وحال مقارب ينطبق على الجزائر، فهي ثالث أكبر دولة مستوردة للقمح في أفريقيا بعد مصروالسودان، ومعظم وارداتها يأتي من روسيا، لكن لدى الجزائر واردات مالية من النفط والغاز يمكن أن تغطي به التكاليف الاضافية لاستيراد الغذاء من مصادر بديلة، على عكس تونس التي تستورد 60% من احتياجاتها من القمح من روسيا واوكرانيا، وليس لديها من المخزون ما يكفي بعد يونيو/حزيران المقبل، لكنها لا تجد موارد مالية تكفي لدفع أثمان استيراداتها المقبلة، ومنها شحنة قمح محملة على أربع بواخر، رفضت دخول موانئ تونس قبل تسديد ثمنها.
والقائمة تشمل كل البلدان العربية الأخرى من العراق بلد النهرين، الذي يعد أيضا من أكبر مستوردي القمح من روسيا واوكرانيا، يليه المغرب واليمن وتونس وليبيا ولبنان.
يبدو هذا الحال مخجلا عدا عن كونه مقلقا، لكن دعونا لا نفاجأ كثيرا، فهومجرد مظهر فشل آخر، كان مخفيا برقعة الاستيراد، سنين طويلة، وتحته ركام من الفساد وسوء الإدارة سلب الاراضي لصالح جهات ومصالح خارجية والكثير من الشبهات.
في مطلع التسعينيات من القرن الماضي أنجز صندوق التكامل بين مصر والسودان مشروعا للتنمية الانسانية وعمران الصحراء، كان يمكن ان يحقق لمصر كفايتها من القمح عام 2001، ويستكمل لاحقا بتحقيق كفاية 22 دولة عربية و12 دولة أفريقية. أودعت أوراق المشروع ودراساته في مقر الصندوق بالقاهرة، قبل أن تهاجمه قوات أمنية لتستولي على جميع الوثائق وتخفيها، وتنهي المشروع بالكامل، وفي عام 1997، أوقف مشروع آخر حقق نتائج كبيرة على صعيد زراعة القمح في الصحراء وشمال الوادي، وفي الحالتين كان القرار من وزير الزراعة الأسبق يوسف والي الذي اشتهر بمحاربة الفلاحين وأرزاقهم، وحول زراعة القمح إلى زراعة الفراولة،. واستورد مبيدات مسرطنة، وقام بخصخصة المشاريع الكبرى، وتدمير زراعة القطن المصري المميز عالميا، لصالح زراعته في اسرائيل، ورغم ذلك فقد استمر في منصبه 22 عاما متتالية.
مظاهر فساد من نوع آخر في لبنان، يضع شعبه تحت تهديد انعدام الخبز فعليا، بعدما كانت الصوامع الأساسية المليئة بمخزون البلاد قد دمرت خلال انفجار مرفأ بيروت في اغسطس/آب 2021. حتى اليوم بعد أكثر من سنة ونصف من الانفجار، ما زال لبنان منشغل بالقاضي المكلف بالتحقيق، قبل أن يجري اتهام أحد أو الوصول إلى الحقيقة بشأن ماحدث. والحصيلة، أن الصوامع الضخمة التي امتصت جزءا مهما من عصف الانفجار، حالت دون وقوع خسائر بشرية ومادية أكبر بكثير، لكنها ذهبت مع دمارها بأمن الناس الغذائي، لأن الحكم اللبناني ظل عاجزا عن إيجاد بدائل، أو تعويض القمح الضائع، ليصل المخزون الحكومي إلى الصفر، في خضم الأزمة العالمية، وغياب قدرة التمويل الكافية لاستيراد القمح مع ارتفاع أسعاره.
لكن الفساد والارتهان للخارج ليس وحده من أوصلنا لهذه الحافة، فهناك أيضا التدمير الخارجي الممنهج للجهد والقدرة، أو أن يكون انهيار هذه القدرة، نتيجة مباشرة للاستبداد ودموية السلطة. جرت الحالة الأولى في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، حينما أصدر الحاكم الأميركي بول برايمر القرار رقم 81 وكان يتضمن انهاء وجود (مركز إباء) للبحوث الزراعية في بغداد (إلى جانب الكثير من مراكز البحوث العلمية) ، وتدمير خزينه غير المقدر بثمن من بذور زراعية نادرة ومتنوعة لا سيما من القمح تعود أصول بعضها الى زمن البابليين.
فرض قرار بريمر على العراقيين ان يستخدموا بذورا محددة توفرها شركات أميركية خاصة، وجميع هذه البذور لا تصلح إلا لموسم واحد فقط ولا يمكن إعادة استنباتها، ويتوجب استيرادها في كل موسم، رغم أنها قليلة الانتاج ومعظمها لا يصلح لدقيق الخبز. واجهت الزراعة الإهمال الجسيم، والفساد، والإرهاب، ليتراجع الإنتاج بشكل كبير، ويجري التركيز على الاستيراد، ليجد العراق نفسه مع الأزمة العالمية، أن مخوزنه من الحبوب لا يكفيه أكثر من ثلاثة أشهر.
أما حالة الاستبداد التي دمرت القدرة، فتتجلى في سوريا. حققت سوريا اكتفاء ذاتيا من القمح قبل العام 2011، والذي يتفوق بجودته وغلاله عن نظيره من أنواع القمح العالمي ومنه الروسي، لكن سوريا خسرت هذا الامتياز المتفرد عربيا، حينما بدأ النظام هجمته ضد الثورة، فشرد الفلاحين من أراضيهم، وأحرق بالقصف الأراضي الزراعية، وفتح بابا واسعا للمحسوبية والفساد، وأصدر في عام 2016 تشريعات بالشراكة مع القطاع الخاص، كرس فيها مفهوم الزبائنية لمنفعة طبقة معينة ضمن النظام، فتوقف عمليا كل جهد حقيقي لتطوير الريف ودعم الفلاحين، وعادت سوريا من جديد إلى مستوردة للقمح، ثم دخلت مرحلة المعاناة وبلغت حافة الجوع بعد العقوبات بسبب جرائم النظام لا سيما قانون قيصر الأميركي.
إذن العالم العربي على موعد مع الجوع في وقت ينشغل فيه ساسة لبنان بالانتخابات، والعراق في إفشال جلسات البرلمان، وحاكم تونس بحل كل ما بقي من فكرة الديمقراطية، وليبيا التي تتأرجح بين حكومتين قد تنزلق بينهما في حرب اهلية جديدة.
ويا للتعاسة والعار، فالقمح الذي زرعه الإنسان قبل 10 آلاف سنة تفشل دولنا في تأمينه لشعوبها، هذه مفارقة مخزية وكأن بلداننا بلا هواء ولا ماء.