في جولته في المنطقة، التي قادته من فلسطين المحتلة حيث اجتمع بقادة العدو الصهيوني الى جدة حيث ترأس اجتماع ٨ دول عربية تقيم علاقات متفاوتة مع الكيان الصهيوني المؤقت، كان الرئيس الأميركي واضحاً في تحديد المهمة الاستراتيجية لجولته وإعلام من يعنيه الأمر بأنّ أميركا لن تنسحب من منطقة الشرق الأوسط حتى لا تنتج فراغاً يسارع الروسي والصيني الى ملئه، ولذلك عدّد بايدن في البيان الختامي لمؤتمر جدة كل دول المنطقة التي تشهد أزمات أنتجتها أميركا ولا تزال تتحرّك في ميادينها بشكل مباشر او غير مباشر، عدّدها ليذكّر المعنيين بها وفيها بأنّ أميركا مستمرة في مسارات التدخل بشؤونها وتوجيهها وفقاً لما تراه من مصالح لها فيها، وبهذا ذكر كلّاً من ليبيا وسورية واليمن والعراق ولبنان وخصّها كلّ منها بفقرات من البيان وفق الرؤية الأميركيّة.

بيد أنّ أهداف بايدن الحقيقية لم تكن مصالح هذه الدول ولا أمنها ولا استقرارها، بخاصة أنّ الكلّ يجمع على انّ السبب الرئيسي والمنتج الأساسي لمآسي هذه الدول كان ولا يزال التدخل الأميركي في شؤونها والحرب الأميركية المتعددة الأشكال التي تشنّ عليها من حرب نارية تنفذها جيوش تقليدية او الإرهاب او حرب اقتصادية ونفسية وإلكترونية، أيّ بالمختصر العدوان الأميركي الذي ينفذ بحروب من الأجيال الثالثة والرابعة والخامسة، الحروب المستمرة رغم حجم التدمير الذي أحدثته في تلك الدول.

لقد أتى بايدن إلى المنطقة من أجل أن يؤمّن تدفق الغاز والنفط بالشكل المناسب لمصالح الغرب، ومن أجل بناء هيكلية تنظيمية لدمج «إسرائيل» في المنطقة بشكل يلقي فيه عبء الأمن «الإسرائيلي» على دول المنطقة التي انزلقت وأقامت العلاقات معها بشكل علني او مكتوم، ولإشعار تلك الدول أنّ أميركا رغم فشلها في تثبيت أركان النظام العالمي الأحادي القطبية فإنها لن تستسلم ولن تسلّم الشرق الأوسط للصين وروسيا وطبعاً إيران، وانّ على هذه الدول تقديم المزيد لأميركا التي تسعى لأن تستمرّ سيدة الشرق الأوسط.

لكن بايدن وكما تأكد من نتائج جولته في المنطقة عاد الى أميركا بخفي حنين، فهو لم يحصل على التزام تنفيذيّ من دول الخليج بزيادة الإمداد النفطي والغازي بما يعوّض النقص الذي أنتجه تراجع الإمداد الروسي، ولم يستطع أن يطلق التحالف الشرق الأوسطي للأمن الذي تريده «إسرائيل»، ولم يحصل على أيّ التزام من الدول الثماني المتحلقة حوله في جدة يطمئنه الى تحجيم او تجميد او قطع العلاقات بالصين وروسيا، كما انه لم يجازف بأي وعد لأحد بأن يعالج العلاقة مع إيران بالحلّ العسكري، وبالتالي نرى انّ شيئاً لم يتحقق لأميركا او لأيّ من المشاركين حضوراً او مساهمة عن بعد في مؤتمر جدة؛ والتقييم النهائي لجولة بايدن وبشكل موضوعي هو الفشل وحصاد نتائج شبه صفريّة، ما سيرتدّ سلباً على السياسة الأميركية الخارجية وعلى الوضع الشخصي لبايدن وحزبه داخلياً، لأنّ جولة الرئيس كانت جعجعة بلا طحين.

وفي المقابل وبعد أيام قليلة من جولة بايدن كانت المنطقة على موعد مع حدث آخر مسرحه طهران، حدث جمع قادة اثنين من المستهدفين بالعداء والمواجهة من قبل أميركا وطرف ثالث حليف لأميركا في إطار الحلف الأطلسيّ، إطار ظاهره المعلن العمل في إطار منظومة استانة المتشكلة من أجل معالجة الوضع السوري والعدوان الذي يشنّ على سورية منذ بداية العقد الماضي، أما حقيقته التي ظهرت بعض خطوطها فهي بناء شراكة استراتيجية إقليمية ودولية تمكن من تجاوز مفاعيل العدوان الأميركي المتعدد الأشكال الذي يستهدف المنطقة والعالم وبالتالي السعي لإرساء أنظمة دوليّة في السياسة والمال والاقتصاد والأمن تنشأ دون أن تتوقف عند الإرادة او القبضة الأميركيّة، ولهذا كان الأدقّ موضوعياً تسمية قمة طهران بقمة (٢+١) نظراً لاختلاف طبيعة وظروف الـ 2 أيّ الروسي والإيراني مع طبيعة وظروف الـ 1 أيّ التركي.

وعليه فإنّ تقييم قمة الـ ٢+١ في طهران يكون أدقّ إذا تمّ عبر عنوانين الأول فيه الثنائي الروسي الإيراني والثاني ثلاثي يضمّ اليهما تركيا ولكلّ عنوان موضوع ومدى خاص به كالتالي:

في العنوان الثنائي الروسي ـ الإيراني شكلت قمة طهران نقلة نوعية في العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين وأسّست عبرهما لنمط من العلاقات الدولية بالغ الأهمية في مواجهة السياسة الأميركية، حيث تعدّدت المواضيع التي تناولتها لتشمل الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي والعسكري وطبعاً فيها النفط والغاز، حيث بلغت الاستثمارات فيه بين الطرفين ما يربو على ٤٠ مليار دولار، وفي هذا النطاق شكلت هذه القمة رداً مباشراً على السعي الأميركي وسياسة العقوبات الأميركية التي تستهدف هذين البلدين، واقامت نموذجاً لكيفية تعامل الدول مع سياسة الكيد الأميركي المسماة عقوبات وحصاراً وحرباً اقتصادية، وفي هذا المجال يسجل بإيجابية عالية ما وقع من اتفاقات بين الطرفين او ما أبرم من تفاهمات او أرسي من أسس للعمل المشترك وكلّ ذلك من شأنه أن يحقق أمرين: الأول تسفيه سياسة الكيد والحصار الاقتصادي الأميركي وتعطيل مفاعيلها او التملص منها، والثاني التطلع الى شبكة علاقات دوليّة متعدّدة المواضيع لا يكون فيها لأميركا دور أو أثر، ما يعني انقلاب السحر على الساحر وتبدّل مواقع الخسائر بين المحاصر المعتدي والمحاصر المعتدى عليه. خاصة في المجالات المالية والاقتصادية من تداول النقد والنفط والغاز والسلع الاستراتيجية الأخرى.

أما في العنوان الثاني الذي يضمّ مسؤولي الدول الثلاث فكان واضحاً فيه التزام ظاهر بمنظومة أستانة والتركيز على الشأن السوري، بحيث نجحت إيران وروسيا في ثني تركيا عن تنفيذ ما تهدّد به من عمل عدواني جديد يستهدف الشمال السوري، كما نجحتا في الاستحصال على التزام تركي جديد بوحدة سورية وسيادتها واستقلالها والعمل على مواجهة الإرهاب.

وفي النتائج الأخيرة وبمقارنة في الأساسيّات بين القمّتين نجد ما يلي:

ـ شاءت أميركا من حركتها الشرق أوسطيّة الأخيرة التحكم بتدفق النفط والغاز خدمة لمصالح الغرب وتعطيلاً لمصالح روسيا وإيران فكانت النتيجة تملصاً خليجياً من المطلب الأميركي وترسيخ إيرانيّ روسيّ لاستثمار نفطي مشترك في صالح الطرفين وحلفائهما.

ـ رغبت أميركا في إنشاء هيكلية تنظيمية إقليمية تحتضن “إسرائيل” وتعزل إيران وتواجهها وتقفل الأبواب بوجه روسيا والصين، فكانت النتيجة أولاً تملص دول قمة جدة من المهمة لا بل التنكّر لها، وفي المقابل عقد الاتفاقيات والتفاهمات الاستراتيجية بين روسيا وإيران بما يمنح القوة للطرفين لتوسيع مجالهما الحيوي في المنطقة.

ـ اتجهت أميركا لإبقاء الوضع السوريّ مسرحاً للنزاع والحؤول دون تقديم ما يمكن من معالجته، ولهذا لم يكن لسورية في بيان جدة الختاميّ أكثر من سطرين… واحد عام والثاني إنشائي يعني النازحين بما يمنع إعادتهم، بينما احتلّ الوضع السوري الصدارة والمركزية في قمة طهران الثلاثيّة التي منعت تنفيذ مشروع عدوان تركي جديد على الشمال السوري وأرست آلية منتجة لمعالجة الوضع الميدانيّ في سورية برمّته وحدّدت ضمناً مهلة ٤ أشهر للتحقق من حسن التنفيذ والنتائج.

ـ أثبت قمة طهران فشل سياسة العقوبات الأميركية، لا بل جاءت النتائج على عكس ما توخت أميركا منها، حيث قدّمت روسيا وإيران نموذجاً حياً لكيفية التعامل مع الكيدية الأميركية، وخلافاً للعزلة التي تريد أميركا فرضها ظهر توجه قويّ لتوسيع إطار دول “بريكس” بضم إيران والسعودية ومصر وهو أمر لن ترتاح إليه أميركا.

وفي ملخص عام يمكن القول إنّ قمة جدة التي كانت شكلية استعراضية لم تخرج الا بحصاد عقيم يؤكد فشلها ويراكم الخسائر الأميركية، بينما جاءت قمة طهران لتحقق لأطرافها وللمنطقة إنجازات هامة ولتفاقم الخسائر الأميركية بشكل يمكن من القول إنّ قطار الخسائر الأميركية الذي انطلق في العام ٢٠٠٠ يوم انتصار المقاومة في جنوب لبنان مستمرّ في حركته بين محطات تلك الخسائر في ميادين كلّ من لبنان وفلسطين وسورية واليمن، وإيران وصولاً الى روسيا وأوكرانيا، حتى باتت أميركا مع كلّ مرحلة تقتدح نارها تنتظر في النهاية خسائرها التي ستتعاظم حتى السقوط المدوّي الشامل لمشروع الإمبراطورية الأميركية…

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *