سألني: هل الاسلام ديمقراطي؟
قلت له: السؤال غير دقيق. فليس من الممكن ان نصف الاسلام بانه ديمقراطي او اشتراكي او ما شابه كما فعل عدد من الكتاب. لا يمكن وصف الاسلام بغيره، كما لا يمكن وصف غيره بصفة ليست منه. الديمقراطية، في حدها الادنى، ليست صفة انما هي منظومة اليات لتداول السلطة سلميا ودوريا على اساس منظومة من القيم العليا المتعلقة بحياة الانسان السياسية.
انما يمكن اعادة صياغة السؤال بالشكل التالي:
هل ينسجم الاسلام مع الديمقراطية، وهل تنسجم الديمقراطية مع الاسلام؟
هل تتعارض نظرية الاسلام في الحكم مع نظرية الديمقراطية في تداول السلطة؟
هل يمكن تبيئة الديمقراطية في مجتمع يؤمن بالاسلام؟
هل يمكن تبني الاليات الديمقراطية في تداول السلطة في مجتمع يؤمن بالاسلام؟
هذه الاسئلة صحيحة من حيث صياغتها، ومن الممكن الاجابة عنها من حيث محتواها. والجواب عنها هو: نعم للاول، ولا للثاني، ونعم للثالث والرابع. واليك التفصيل.
تنبثق نظرية الحكم في القران من الايات التالية:
“وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”.
“إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى السماوات وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”.
تحدد هاتان الايتان المركز القانوني والسياسي للانسان في الارض. وهذا التحديد او الجعل تم من قبل الله الذي يملك وحده هذا الحق، كما يرى المؤمنون به.
وهذا المركز هو “الخلافة”. فالانسان، عموم الانسان كنوع، هو خليفة لله في الارض.
والخلافة عنوان لمنصب الهي جعله الله للانسان، كما جعل النبوة والرسالة والامامة عناوين مناصب لاشخاص يختارهم مثل قوله لابراهيم: “إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا”، وقوله:”فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ، وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا”.
قال ابن كثير في التفسير نقلا عن ابن جرير: ( إني جاعل في الأرض خليفة ) مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي. وشرح معنى كلمة “خليفة” بقوله:”والخليفة الفعيلة من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده”.
وخلافة الانسان لله تعني تخويله من قبل الله بالحكم والادارة والتدبير للمجتمع البشري. فالخلافة هي التدبير، والخليفة هو المدبر.
وقد التقط الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر هذا المعنى فقال ان الخلافة اساس للحكم في القران والحكم بين الناس متفرع على جعل الخلافة، و “ان الله سبحانه وتعالى اناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون واعماره اجتماعيا و طبيعيا وعلى هذا الاساس تقوم نظرية حكم الناس لانفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله”. وهذه هي نقطة الالتقاء بين النظرية الاسلامية للحكم وبين الديمقراطية، كما يقول الصدر، حيث ان النظرية الاسلامية “تطرح شكلا للحكم يحتوي على كل النقاط الايجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية وضمانا لعدم الانحراف”. وتتمثل الفوارق في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري للدولة والمجتمع والتي يطرحها القران.
وقد لا يوافق بعض المتدينين على هذا التفسير للخلافة، ويطرحون رأيا اخر، لكن البحث العميق يؤدي الى القول بعدم التناقض بين القولين وامكانية الجمع بينهما على قاعدة التمييز بين المفهوم والمصداق، وهذا موضوع بحث اخر خارج تخصص هذه المقالة.
هذا فيما يتعلق بالبشرية ككل، اما فيما يتعلق بتطبيق مفهوم الاستخلاف في المجتمع الاسلامي فقد قال القران الكريم:
“وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ”.
“وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”.
“وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه.”
“وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا”
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ”.
والذي يمكن استخلاصه من هذه الايات هو:
سريان الولاية في كل افراد المجتمع فردا فردا. فكل فرد مسؤول عن تدبير امور الدولة والمجتمع.
ان افراد المجتمع يدبرون امور الدولة بالشورى فيما بينهم. وهذا شيء يشبه الديمقراطية التداولية او التشاورية deliberative democracy. و لا يجد حل للاختلاف عند حصوله سوى التصويت بالاكثرية.
وان الشورى ملزمة للحاكم غير المعصوم. ويمكن للمجتمع ان يحدد صيغة الشورى او صيغها المناسبة له.
وان القرار الصادر من الشورى ملزم للجميع.
حاول الدستور العراق الجمع بين الاسلام والديمقراطية حين نص في المادة الثانية على ما يلي:
“أ ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.
ب ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.”
وفي هذا النص اساءة للاسلام والديمقراطية معا!
هذا ما انتهت اليه دراستي المستمرة للامر منذ اكثر من ثلاثين عاما، مستندا في ذلك الى القران الكريم واراء مفكرين وفقهاء عظام مثل العلامة محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير “الميزان”، والشيخ محمد حسين النائيني صاحب كتاب “تنبيه الأُمَّة وتنزيه الملّة”، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
وقد نشرت هذه الاراء لاول مرة في شباط من عام ١٩٩٠ حيث انهالت علي شتى التهم من العمالة للغرب والانحراف عن الاسلام!
ولا حول ولا قوة الا بالله!